أشكال تغيّر المعنى: مقارنة بين الاستعمال اللغوي المعاصر والمعاني القرآنية

سماحة الشيخ علي آل موسى

عندما نبحث عن معنى كلمة في اللغة في زمن ما.. فبحثنا هذا (تزامني تواقتي تعاصري) (= سنكروني)، وعندما نبحث معنى كلمة في أزمنة مختلفة، لنرى هل بقي معناها كما هو أم تغيّر، فبحثنا (تطوري تعاقبي تاريخي) (= دياكروني).

وقد عُرف هذا الموضوع بعناوين كثيرة منها: (التغيّر اللغوي) و(التطور اللغوي)، و(تغيّر المعنى)، و(التطور الدلالي)، وأضحى أحد أهمّ موضوعات (علم الدلالة).

وحين ندرس كلمات اللغة ـ ومنها كلمات القرآن الكريم ـ دراسة تطورية تاريخية، سنرى أنّ كلماتها قد تشهد أنواعاً ثلاثة من تغيّر المعنى، نسمّيها (أشكال تغيّر المعنى)، وهي:

1ـ توسيع المعنى:


وهو انتقال معنى الكلمة من خاصّ إلى عام، فتشير إلى معنى أكبر مما كان لها في السابق، ويصبح مدلولها أوسع من ذي قبل، ويكون المعنى السابق أخصّ من المعنى الحاضر(1).

يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً(2).
و(الفردوس) هو: أعلى درجة في الجنة، ولذلك قال رسول الله : "إذا سألتم الله فسلوه الفردوس؛ فإنّه أوسط الجنة وأعلى الجنة"(3)، وقال أمير المؤمنين : "لكلّ شيء ذروة، وذروة الجنة الفردوس"(4)، ويرى المفسّرون أنّه "أفضل مناطق الجنة"(5).
في حين يطلق الناس لفظ (الفردوس) على جميع الجنة؛ باعتقاد أنّه اسم مرادف لكلمة (الجنة)، فتوسعت دلالته - استعمالاً - من أعلى مكان في الجنة إلى الجنة كلّها.

2ـ تضييق المعنى:

وهو تحويل دلالة الكلمة من المعنى الكلي إلى المعنى الجزئي أو تضييق مجالها، أي تحديد معاني الكلمات، وتقليلها، وتخصيصها(6)، فيكون المعنى السابق أعمّ من المعنى الحاضر، فهذه النقطة تماماً خلاف الأولى.
يقول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(7).
فقد كانت كلمة (اللحم) ذات معنى عام، ينطبق على لحوم البهائم والطيور والأسماك، وفي الآية عدّ القرآن الأسماك لحماً، بينما العرف الحاضر لا يعدّها من اللحوم، ويقصر اللحوم على البهائم (اللحوم الحمراء)، والطيور (اللحوم البيضاء)، وفي بعض الأعراف تُطلق كلمة اللحوم على لحوم البهائم فقط. أي أنّ المعنى عندنا ضاق عما كان عليه من سعة في الاستعمال القرآني.

3ـ نقل المعنى:

وهو انتقال الكلمة إلى معنى جديد معادل في النسبة للمعنى السابق، فالمعنيان (السابق/ والحاضر) هنا متساويان، وليس هناك أعمّ أو أخصّ(8).
يقول الله تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ(9).

فكلمة (استعمار) تعني: طلب التعمير، وهو مدلول إيجابي خيّر استعملته الآية فيه، فالله – سبحانه - استعمر البشر في الأرض، أي طلب إعمارهم لها. بيد أنّ المحتلّ الأجنبي سمّى ممارساته السيئة في بلادنا (استعماراً)، فساء معنى الكلمة نتيجة اقترانه بتلك الأفعال، وأمسى معناها مرادفاً للإذلال والتخريب والسلب والنهب والقتل والاحتلال، المفروض من قوة غازية على شعب آخر.  

ملاحظات هامة:

وفي الختام لنا بعض الملاحظات:

1ـ موضوع (تغيّر المعنى) موضوع وصفي، يقرأ ظاهرة لغوية في زمن أو زمنين؛ ليرى مدى ثبات دلالة الألفاظ أو تغايرها، ولا يسعى أن يصدر حكماً معيارياً بالتصويب أو التخطئة، فهو لا يحكم بأنّ الاستعمال القديم صحيح، أو أنّ الاستعمال الحاضر خطأ.

2ـ ونحن ـ هنا ـ نبحث هذا الموضوع في زمنين متباعدين هما: زمن النزول وصدور النصّ، وزمن الاستعمال الحاضر؛ لنرى أيّ الظاهرتين هي التي حصلت: ظاهرة الثبات اللغوي، أم ظاهرة التغيّر.

3ـ موضوع توالي الدلالات على اللفظ الواحد.. قديم، وأكثر من اهتمّ به في الدائرة الإسلامية (علم الأصول):

أـ فقد شاع لدى علماء الأصول مبحث (أصالة ثبات اللغة)، وأنّنا عند الشك في حصول تغيّر للمعنى اللغوي عبر الزمن، فالأصل ثبات اللغة حتى يثبت التغيّر بالدليل والبرهان؛ لأنّ اللغة وضعية تعاقدية، سماعية نقلية، والاستعمال اللغوي يتم وفق ذلك ذاك الوضع والتعاقد.

ب ـ كما درسه الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري في مبحث (الحكومة والورود)، وبيّن أنّ ألفاظ الشارع توسِّع أو تضيِّق الدلالة في الموضوع والحكم والمتعلق معاً.

ج ـ ودرسه علماء الأصول في مبحث (دلالة الألفاظ) في موضوع (الحقيقة اللغوية، والحقيقة الشرعية، والحقيقة المتشرعية)، وبيّنوا أنّ الحقيقة الشرعية والمتشرعية ناقلة للدلالة، موجِدة لمعنى جديد مختلف عن المعنى اللغوي تُحمل عليه ألفاظها، كما في الألفاظ الشرعية (الوضوء، الغسل، التيمم، الصلاة، الصوم، الحج، الزكاة).

د ـ ودرسوه في مبحث (دلالة الألفاظ) ـ كذلك ـ عند اختلاف المعنى بين (زمن النصّ والصدور والحضور) و(زمن الاستنباط والرجوع والغيبة)، وقالوا بحجية المعنى في زمن النصّ، وتفسير النصوص به، لا زمن الاستنباط.

4ـ ونحن حين نعرض موضوع (تغيّر المعنى) نلمح أمرين:

أـ حصول الانزياح والتغاير اللغوي ـ أحياناً ـ في الزمن الواحد أو عبر الزمن، ووقوع التغيّر اللغوي والتطور الدلالي في المعاني المكتنزة بالألفاظ.

ب ـ أحياناً يكون التغيّر اللغوي والتطور الدلالي في الزمن الواحد بين المستويات الاستعمالية المختلفة (كاللغوي/ والاصطلاحي/ والعرفي)، أو بين الزمنين المختلفين (كالقديم/ والمعاصر)، جذرياً مفصلياً، وحينها قد يكون لهذا البحث مستويان:

الأول: تفسير كلمات الشرع:

فكلمات الشرع ومفرداته ـ ومنها مفردات القرآن الكريم والسنة المباركة ـ سوف تُفسر بمعناها زمن الصدور والنصّ والحضور؛ لأنّه المعنى المرجعي الدائر بين المتحاورين زمن صدور النصّ، والمتبادر من اللفظ آنذاك، ولن تُفسّر بالمعاني الحادثة المستجدة.

الثاني: تفسير مراد المتكلم:

كلمات المتكلم اليوم في الزمان الحاضر ومفرداته سوف تُفسر بالمعنى العرفي المراد زمن الاستعمال والرجوع والغيبة؛ لأنّه المعنى المرجعي الدائر بين المتحاورين زمن الاستعمال، أي يقدم المعنى العرفي حتى على الدلالات اللغوية والشرعية للكلمة، كما لو قال شخص: (محمد خطفته سيارة)، وهو يقصد المركبة المعروفة، لا القافلة ـ كما استعملها القرآن الكريم في قصة يوسف حين قال: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(10) ـ. أو قال: (اشتريتُ المبيع سلفاً)، وهو يقصد (نسيئة) ـ كما عليه عرف اليوم المخالف للمعنى الشرعي ـ.

5ـ ومما مضى يتضح أنّ (تغيّر المعنى والدلالة) موضوع هام ومركزي ومحوري، لكنّه تقلص ـ للأسف ـ في دراساتنا اللغوية العربية؛ لدخول المعيارية فيه، والنظر للتغيّر اللغوي والتطور الدلالي نظرة ريبة وتخوين وكونه (فساداً لغوياً وذوقياً، وانحرافاً استعمالياً، ومؤامرة شعوبية واستعمارية)، بينما اهتمت به الدراسات اللغوية الغربية كثيراً، لا سيما بعد جهود عالم اللسانيات السويسري فرديناند ديسوسير في (البنيوية) التي قامت على أسسها المدارس الألسنية الحديثة، وجهود علماء (الهرمنوطيقا) في تفسير النصّ عموماً والنصّ الديني خصوصاً.

6ـ ومن ثمرات غيابه أن راح البعض يفسّر الألفاظ القرآنية والروائية بالمعاني الحادثة المستجدة التي لم تكن دائرة على ألسنة المتحاورين زمن صدور النصّ، فإذا قرأ قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا(11)؛ ظنّ أنّ موسى وفتاه كانا يحملان (حوتاً) ـ بالمعنى المعاصر اليوم لهذه الكلمة؛ وانسرب ذهنه يرتع في الخيال الأسطوري؛ ليظنّ أنّ نبي الله موسى وفتاه يوشع بن نون كانا عملاقين شاهقين وضخمين هائلين كالجبال الشامخات، الأمر الذي مكنهما من التطواف في ربوع الأرض وهما يحملان معهما الحوت الضخم!!

لقد غفل هذا عن أنّ كلمة (الحوت) من الكلمات التي شهدت انكماشاً (وتضييقاً في المعنى)، فقد كان النصّ العربي والقرآني والروائي يطلقها على (السمك عموماً، أو العظيم من السمك) (12)، وفي هذا تندرج رواية عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله الصادق قال: "كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالكوفة يركب بغلة رسول الله ثم يمرّ بسوق الحيتان فيقول: لا تأكلوا ولا تبيعوا من السمك ما لم يكن له قشر"(13). 

بينما صرنا اليوم نطلق كلمة (الحوت) على نوع معيّن من الأسماك، هو أضخم أسماك البحار قاطبة.

 

 

 

(1) الدكتور أحمد مختار عمر، علم الدلالة/ 243.
(2) سورة الكهف، الآية 107.
(3) صحيح البخاري، م3، ج 9، باب (وكان عرشه على الماء)، ص 153.
(4) السيّد هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن 6/ 305، ح 6814.
(5) الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل 9/ 343.
(6) علم الدلالة/ 245.
(7) سورة النحل، الآية 14.
(8) علم الدلالة، الآية 247.
(9) سورة هود، الآية 61.
(10) سورة يوسف، الآية 19.
(11) سورة الكهف، الآية 60ـ 63.
(12) راجع:
ـ الخليل بن أحمد الفراهيدي، العين 3/ 282.
ـ إسماعيل بن حماد الجوهري، تاج اللغة وصحاح العربية (الصحاح) 1/ 247.
ـ محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، مختار الصحاح/ 91.
ـ ابن منظور، محمد بن مكرّم بن علي الأنصاري، لسان العرب 2/ 26.
ـ الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن 5/ 12.
ـ الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن م 2، ج 4، ص 380.
ـ الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل 9/ 311.
(13) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 6/ 220، باب آخر من صيد السمك، ح 6.