كالتي نقضت غزلها

الأستاذ بشير البحراني *

لا أعلم ما السبب الذي جعل ثلاثة أشخاص متفرقين يسألونني في غضون شهر واحد عن معنى قوله تعالى في سورة النحل: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [النحل:92].

 من هي تلك المرأة؟ وما قصتها؟
 وما علة هذا التمثيل القرآني؟

  • امرأة حمقاء

 المرأة المقصودة في الآية الكريمة هي امرأة عاشت في زمن ما قبل الإسلام (الجاهلية)، واسمها رابطة أو رايطة أو ريطة من بني تميم، وكانت امرأة تلقب بالجعراء أو الجعرانة، وإليها ينتسب الموضع المسمى بالجعرانة بين مكة المكرمة والطائف، وهو ميقات للإحرام.
 وإلى جانب ذلك كانت تسمى بخرقاء مكة، ويضرب بها المثل في الحمق، فما قصة حمقها؟
 لقد كانت هذه المرأة تجتمع كل يوم، هي ومجموعة من الجواري والعاملات لديها، فتأمرهن بالعمل على غزل ونسج الصوف والشعر ونحوهما، ثم إذا انتصف النهار وانتهين من أداء عملهن في الغزل؛ أمرتهن بنقضه، أي إفساد ما غزلنه وإرجاعه أنكاثاً، بمعنى أنقاضاً أو خيوطاً، وذلك بإعادة تقطيع الغزل إلى قطع صغيرة، ثم تنكث خيوطها المبرومة، فتُخلط بالصوف أو الشعر الجديد وتنشب به، ثم تضرب بالمطارق أو ما شابه، على أن يقمن بغزله مجدداً في اليوم التالي.
 .. وهكذا، تجهد هذه المرأة نفسها وعاملاتها بالعمل ثم تفسده بحمقها وخراقتها.

  • سياق الآيات

 لو عدنا للآيتين السابقتين لهذه الآية، لوجدنا أن الله سبحانه وتعالى يأمر ببعض الأشياء وينهى عن أخرى، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل:90-91].
 إنه أمر من الله جل جلاله بأن يلتزم الإنسان العدل والإحسان ومساندة وإيتاء ذي القربى حقوقهم، ونهي منه تعالى بأن يجتنب المرء الفحشاء والمنكر والبغي، بمعنى اجتناب الذنوب والتجاوزات الظالمة على اختلاف حجمها وسعتها، ما بطن منها وما ظهر.

 ثم يأتي الأمر بالوفاء بالعهد وعدم نقض اليمين (أي: القسم)، وفي سبب نزول آية ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ...، يقول الشيخ الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان): "نزلت في الذين بايعوا النبي على الإسلام، فقال سبحانه للمسلمين الذين بايعوه: لا يحملنكم قلة المسلمين وكثرة المشركين على نقض البيعة، فإن الله حافظكم، أي اثبتوا على ما عاهدتم عليه الرسول وأكدتموه بالأيمان. وقيل: نزلت في قوم خالفوا قوماً، فجاءهم قوم، وقالوا: نحن أكثر منهم وأعز وأقوى، فانقضوا ذلك العهد وحالفونا" .

 ولكنه ورد في تفسير القمي عن الإمام جعفر الصادق قوله: "لما نزلت الولاية وكان من قول رسول الله بغدير خم سلموا على علي بإمرة المؤمنين ، فقالوا: أمن الله ورسوله؟ فقال: لهم نعم حقاً من الله ورسوله، فقال: إنه أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين يقعده الله يوم القيامة على الصراط فيدخل أولياءه الجنة ويدخل أعداءه النار، وأنزل الله عز وجل ﴿وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا...الخ، يعني قول رسول الله من الله ورسوله، ثم ضرب لهم مثلاً فقال: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ" . وورد ما يشبهه في مصادر أخرى.

  • حمق من ينقض العهود

يريد الله سبحانه وتعالى أن يقول لنا أن الذين ينقضون ويتهاونون بالعهود والمواثيق أولئك في الحمق كتلك المرأة الخرقاء التي تجهد نفسها وغيرها بلا ثمرة.
إن علة هذا المثل القرآني تكمن في أن نلتفت إلى بعض أسباب سقوط الشخصية وانحطاط مقامها ومنزلتها، وهو أن نقض العهود والأيمان والمواثيق يحط من مكانة الإنسان ويسخفه في نظر الآخرين من أبناء مجتمعه.

البعض يعتقد أن الوفاء بالعهد مع الله سبحانه وتعالى أو الوعود الموثقة مع الآخرين، أمر ليس بالمهم، فتراه يكثر من القسم بمناسبة أو غير مناسبة، وبالرغم من أن الله جل جلاله لا يؤاخذ على اللغو فيها إلا أنه يحاسب على الأقسام التي فيها نية وعزم وعقد، قال تعالى: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:225]، وقال: ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ [المائدة:89]، وينبغي للمرء أن يحاول -قدر المستطاع- تهذيب لسانه وتعويده على عدم اللغو.

إن الوفاء بالعهود ليس بالأمر الثانوي، وإلا فتأمل في هاتين الروايتين الواردتين على لسان رسول الله محمد ، حيث يقول في الأولى: "لا دين لمن لا عهد له" ، وفي الثانية: "حسن العهد من الإيمان" .

هل أنت موقن بالله عز وجل؟ إذن لزم عليك مراعاة العهود، فعن الإمام علي بن أبي طالب : "ما أيقن بالله من لم يرع عهوده وذمته" .

إن العهود والمواثيق قلادة في جيد الإنسان، مسؤول عنها، فقد ورد عن الإمام علي أيضاً: "إن العهود قلائد في الأعناق إلى يوم القيامة، فمن وصلها وصله الله، ومن نقضها خذله الله، ومن استخف بها خاصمته إلى الذي أكدها وأخذ خلقه بحفظها" .

بل إن نقض العهود صفة من صفات المنافقين الذين يصفهم الرسول الأكرم في هذا الحديث: "ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان" .

وإلى جانب هذه الروايات الشريفة التي تؤكد على بالغ أهمية الوفاء العهود وعدم الاستهانة بالأيمان والمواثيق، تتضافر الآيات القرآنية لتأكيد هذا المعنى أيضاً:

1- ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40].
2- قال تعالى: ﴿وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89].
3- قال تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً [الإسراء:34].
4- قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8، والمعارج:32].

  • تتخذون أيمانكم دخلاً

بعد ذكر المثل القرآني بالمرأة الحمقاء، تأتي الجملة الحاليّة التالية: ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ، و"الدخل: ما أدخل في الشيء على فساد، وربما يطلق على الخديعة، وإنما استعمل لفظ الدخل في نقض العهد، لأنه داخل القلب على ترك البقاء، وقد نقل عن أبي عبيدة، أنه قال: كل أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل، وكل ما دخله عيب فهو مدخول" .

والمعنى أنكم تخادعون أنفسكم وبعضكم والبعض، وتدخلون الفساد والتقلب في قلوبكم، وتهيئون لأنفسكم الأعذار الواهية فتفشلون في الابتلاء الإلهي ﴿إنما يبلوكم، فتظنون أن الأكثرية ﴿أربى هم الأصلح لكم وإن فسدوا، فتعطون لأنفسكم الحق في خيانة العهد الذي بينكم وبين الله جل جلاله.

إن القلوب الفاسدة المخدوعة هي التي تتخلى عن إيمانها وتوكلها على الله، فقط لأن الجهة المقابلة هم أقوى عدداً أو عتاداً، وينسون أن الله جل جلاله هو القائل: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].

  • دروس أخرى

 نستفيد من هذا المثل القرآني أيضاً، أن على الإنسان أن يداوم على العمل ولا ينقطع وأن يتقن عمله، فـ"قليل يدوم خير من كثير منقطع" ، وعن النبي محمد : "إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" .

 و"سئل بعضهم عن تارك الاستقامة، فقال: قد ذكر الله ذلك في كتابه فقال: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا" .

 وأن يكون العمل عن دراية وفهم، وألا تبذل الجهود عبثاً وهباءً. ذات مرة خاطب رسول الله ابن مسعود ناصحاً: "يا ابن مسعود: إذا عملت عملاً فاعمل بعلم وعقل، وإياك وأن تعمل عملاً بغير تدبر وعلم، فإنه جل جلاله يقول : ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا" .

  • الأمثال تقال ولا تقاس

بالطبع فإن الله جل جلاله حين يستشهد أو يسوق لنا مثلاً معيناً كتلك المرأة الحمقاء، فإنه لا يقصد المرأة كجنس دون الرجل، وإنما المثل منطبق على كلا الجنسين، والدعوة إلى العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى واجتناب الفحشاء والمنكر والبغي ونقض العهد، فإنها دعوة إلى الجنسين أيضاً.

وإنما الدعوة في هذا المثل وغيره للناس جميعاً: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21].
 

(*) المقال عن مجلة ملف الطاهرة، ع12، صيف 1428هـ.
1- الفضل بن الحسن الطبرسي. مجمع البيان في تفسير القرآن، ط1، (بيروت: دار المرتضى، 1427هـ)، ج6، ص148.
2- علي بن إبراهيم القمي. تفسير القمي، ط3، (قم: دار الكتاب، 1404هـ)، ج1، ص389.
3- محمد الري شهري. ميزان الحكمة، ط1، (قم: دار الحديث، 1416هـ)، ج3، ص2147.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق، ج3، ص2146.
7- ابن شعبة الحراني. تحف العقول عن آل الرسول، ط2، (قم: مؤسسة النشر الإسلامي، 1404هـ)، ص316.
8- جعفر السبحاني. مفاهيم القرآن، ط2، (قم: مؤسسة الإمام الصادق، 1420هـ)، ج9، ص180.
9- علي بن محمد الليثي الواسطي. عيون الحكم والمواعظ، ط1، (قم: دار الحديث)، ص370.
10- محمد الري شهري. مصدر سابق، ج3، ص2132.
11- ابن أبي الحديد. شرح نهج البلاغة، ط1، (بيروت: المكتبة العصرية، 1425هـ)، مج6، ج11، ص154.
12- محمد الري شهري. مصدر سابق، ج3، ص2130.
كاتب ومؤلف من السعودية