الدستور الدائم في العراق.. ثمة قيم لابد منها

   إن كنا نعيش سياسة المراحل، فلابد من القول: إننا لازلنا في المراحل الأولى لبناء الدولة  بمفاهيم وثقافات جديدة، أو إعادة إنتاج قيم إنسانية جرى عليها الكثير من التجاهل والنكران والتغييب، فضلا عن السعي إلى ترسيخ القيم الأصيلة التي هي أساس وروح المجتمع والسبيل إلى ديمومته ورقيه وحضريته من اجل أن لا تجرفها التغيرات الحاصلة سواء في المحيط المحلي أو الإقليمي أو الدولي.

ففي كل مرحلة يتم الوصول إليها، وكل خطوة نخطوها علينا مراجعة أنفسنا، ومراجعة آليات عملنا، والسعي إلى تقييم ما أفضت إليه تلك الخطوات من نتائج وآثار، وفي كل ذلك لابد أن تكون قيم المجتمع وثقافته وهويته حاضرة أمامنا، ليس بمعنى التقديس لقيم معينة على حساب أخرى، ولكن بمعنى الحفاظ على الهوية الحضارية التي هي في كل الأوقات السبيل لإنتاج مجتمع التقدم والازدهار والاستقرار.

  وبقدر تعلق الأمر بخطوات بناء الدولة، ينبغي الإشارة إلى أن بدايتنا، كمجتمع ديمقراطي له كلمته وصوته وأحقيته في التعبير عن رأيه كانت مع إشراقة يوم (30/ كانون الثاني/ 2005)، فهي تمثل بحق الخطوة الأولى من خطوات البناء، فيوم الانتخاب والتصويت هو ليس اختيارا لممثل سياسي معين دون آخر، أو اختيارا لكيان سياسي دون سواه، إنما تصويت 30 من كانون الثاني 2005  كان تصويتا لكل العراق ومن اجل ديمومته وصيرورته.

ورغم النصر العراقي الكبير في ذلك يوم فانه لابد من مراجعة وتقييم لتك الخطوة لكي ننتقل بصورة تدريجية ومترابطة إلى ما بعدها من خطوات .

 وفي إطار هذا التقييم لابد من القول إن هناك سعي عراقي وحرص دائم للبناء والانتقال نحو صيغة المؤسسة الدائمة، ونحو إشاعة ثقافة الحوار والتشارك والتسامح بين المكونات العراقية المتعددة. حيث ترسمت حقيقة أساسية في وعي الغالبية العظمى من المجتمع، وهي السعي إلى تغليب أسلوب الحوار والتصارح، ونبذ الاقتتال والسعي إلى إشراك كل فرد، وكل طائفة في بناء مستقبل البلد .

 وانطلاقا من ذلك وبعد أن أفضت الانتخابات إلى هيئة منتخبة من قبل الشعب، تأتي المرحلة والخطوة التي بعدها من خطوات البناء، وهي خطوة لا تقل أهمية عن الانتخابات تتمثل في الشروع في كتابة الدستور الدائم للدولة .

 وهنا تظهر التساؤلات التي نجدها ضرورية ليس في تصورنا وحسب، وإنما في تصور وفكر العديد من القطاعات والمكونات الشعبية التي تحرص على العراق، تتعلق تلك التساؤلات بمقدمات كتابة الدستور؟ وما هي الآليات الواجب توافرها؟ ومن ثم الوصول إلى مرحلة الصياغة النهائية للدستور .

    فمجتمعنا مجتمع الخصوصية، والانتماء المتعدد، والأفكار المتباينة، وهذا ليس عيباً بأي شكل من الأشكال، فالتباين أساس لبناء مجتمع الوحدة الوطنية، ولنا في دول متقدمة تمتلك نفس خصوصية التعدد مثال واضح في ذلك كما هو الحال في سويسرا، ولكن العيب هو السعي إلى جعل ذلك التباين والتعدد في المشارب الفكرية سبيلا للتفرقة والاقتتال، وهذا ليس مقبولا تحت أي مسوغ كان.

 من هنا لابد أن تكون صورة التفاهم والحوار والانتقال الجاد في الأفكار وتبادل وجهات النظر هي الصورة الشاخصة في كتابة مفردات الدستور. لان المهم هو التوصل إلى دستور دائم لا يلغي احد، ولا يقتل احد، ولا يكفَر احد، ولا يتجاهل أي فئة أو طائفة من اجل بناء مؤسسات تعكس بالمحصلة النهائية قيم ومتطلبات المجتمع. فالدستور هو " مجموعة قواعد متفق عليها تصف تنظيم حكومة بلد ما " .

وبالتالي فان نوعية الدستور وأساسه القانوني له أهمية كبيرة في تحديد طبيعة الثقافات السياسية القائمة في المجتمع. لذا يرى الإمام الشيرازي في الدستور بأنه اصطلاح في العصر الحاضر لموجز الإطارات التي تعمل الدولة بمقتضاها في مختلف الأمور المرتبطة بالشؤون الداخلية والخارجية. ويرى أيضا في الدستور بأنه يقوم على أسس معينة، فهو بالدرجة الأساس يحدد آلية العلاقة بين الشعب والدولة من خلال تحقيق حالة التوافق بينهما، كذلك أن الدستور لديه يمثل المرجع لكافة المكونات الشعبية من جماعات وأحزاب واديان وقوميات ولغات، وهو قانون واحد يوجب توحيد الشعب ويمثل ضمانة أساسية لكافة الفئات.  

  والدستور يتطلب ابتداءا التأكيد على الهوية العامة للدولة، فهي تمثل انعكاس للقيم المشتركة، وبقدر تعلق الأمر بالعراق فان الحفاظ والتأكيد على الهوية الإسلامية ليس انتقاصا بأي حال من الأحوال للقيم والديانات الأخرى، لان الإسلام كمصدر للتشريع ضرورة وثابت قيمي لابد من ترسيخه عبر استحضار مكوناته الإنسانية والحضارية.

  والتأكيد على دور الإسلام في التشريع مهم ومرتبط بشكل أساس بحيوية القانون الإسلامي ومواكبته للتطورات الحاصلة في الحياة سواء الاجتماعية منها أو الاقتصادية أو السياسية. وبالتالي إمكانيته لتجاوز الثغرات التي تولدها الحياة وإيجاد حلول للازمات الجذرية الحادة، حسب ما يرى الإمام الشيرازي(قدس سره).

  من المسائل الأخرى التي ينبغي التركيز عليها في كتابة الدستور، هو مدى تحقيق الدستور لمبدأ العدالة الإنسانية اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. والعدالة حسب رأي الإمام الشيرازي هي عبارة عن وضع الشيء موضعه، وهي تلزم المساواة في القضايا العامة كالقضاء وإيجاد فرص العمل والثقافة والصحة وما إلى ذلك. وهنا نكون في هذا الظرف بأشد الحاجة لتطبيق هذا المبدأ من حيث النظر إلى الشعب بمكوناته المتعددة والسعي إلى ترسيخ مبدأ المشاركة العامة في البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي، من خلال إشراك اغلب المكونات الشعبية في الدستور ليكون دستورا عاما لكافة مكونات الشعب.

   يتطلب الدستور كذلك تضمين مفردة الحريات العامة لما لها من أهمية وارتباطها إلى حد كبير بمناخ الديمقراطية والعدالة. فالحرية مطلب هام وحيوي، وهنا نجد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يدلل على أصالة الحرية بالقول[لا تكن عبد لغيرك وقد جعلك الله حراً] ، ويرى الإمام الشيرازي، بأنه على الدولة أن تطلق كافة الحريات للناس في كل الإبعاد، ضمن الإطار الإسلامي، من حرية العقيدة والرأي والاكتساب والتجارة والصناعة والدخول في الوظائف والسفر والإقامة والعمارة وإنشاء الأحزاب وإصدار الصحف.

  ولكن التساؤل هنا عن أي حريات نبحث في العهد الجديد؟ مما لاشك فيه أن الحريات الواجب توفرها في الدستور الجديد هي تلك الحريات التي لا تتعارض مع نظام القيم العام في المجتمع. وهنا نجد الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول:[انه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم].

 ومن المسائل الأخرى الواجب توفرها في دستور الدولة الجديد هو آلية العلاقة بين مؤسسات الدولة من حيث عدم طغيان مؤسسة على أخرى واستقلالية كل منها في عملها بما يخدم المصلحة العامة. وهنا يرى الإمام الشيرازي أن الاستقلالية في أداء القوى التشريعية والقضائية والتنفيذية مسألة مهمة، لأنه لولا الاستقلال التام للقوة التشريعية لسيطرت القوة التنفيذية، فكانت من أدوات الديكتاتورية. فالاستقلالية المؤسساتية للدولة العراقية الجديدة أمر لابد من ترسيخه وتأكيده في الدستور، بل والأكثر من ذلك السعي إلى جعلها موضع التطبيق لنجاح العملية السياسية وترسيخ لدولة المؤسسات والقانون التي هي من دون شك مقياس البنيان الديمقراطي ومقياس للتوافق القيمي وللعدالة والحرية.

  وخلاصة الأمر نقول إن من الضروري تضمن الدستور العراقي الدائم القيم العامة، والعدالة والمساواة، والحريات العامة، ومن ثم العلاقة المتوازنة بين السلطات، للترابط بين تلك المسائل، لأنه حسب ما نعتقد أن تحقيق أي منها يقود لتحقيق الأخرى، وهي جميعها تصب في مصب الديمقراطية بقدر ما هي نابعة منه.