آليات التوافق الوطني بين مكونات المجتمع العراقي

  البعض يصف المجتمع العراقي بأنه تركيبة "فسيفسائيه" إشارة منهم إلى نوع التعددية الحزبية والقومية والدينية والمذهبية داخل المجتمع، وليس في ذلك ضير؛ لان التعددية الاجتماعية أمر طبيعي يشترك فيه المجتمع العراقي مع غيره من مجتمعات العالم، لكن الكلام في طبيعة وكيفية العلاقات و التفاعلات التي تربط مكونات هذا المجتمع بعضها مع البعض بحث تفضي هذه العلاقات بالنتيجة إلى نسق إيجابي عام من السلوك الاجتماعي .

 سياسيا مر العراق بمرحلتين، مرحلة إلغاء تام للتعددية، ومرحلة الظهور المفاجئ لها، فلا يخفى أن المجتمع العراقي عانى بمختلف مكوناته الاجتماعية من السياسات التي اتبعتها الأنظمة التي حكمت العراق، و سلبت هذا المجتمع حقوقه و حرياته، وقد بين ذلك الإمام الشيرازي ( قدس ) في مؤلفاته كإلغاء مظاهر الديمقراطية والتعددية الحزبية و إلغاء دور الأكثرية و تهميشهم حيث أن الشيعة على سبيل المثال هم أكثرية السكان في العراق إلا أنهم خارج المناصب العليا في الدولة، وأصبحت المناصب والحقائب الوزارية وزمام القوة بيد الأقلية، رغم أن جميع القوانين و الأنظمة حتى الوضعية منها تعطي الحق لمن يمثل الأكثرية في إدارة شؤون البلاد مع مراعاة حقوق الأقلية و عدم ظلمهم، لاسيما في الحقبة البعثية التي انتهت بسقوط نظام الدكتاتور صدام حسين.

  وقد أفرزت المرحلة الممتدة منذ سقوط النظام البائد في نيسان عام 2003 وحتى موعد إجراء الانتخابات في كانون الثاني عام 2005 حالة جديدة لم يألفها المجتمع العراقي من قبل وهي حرية ممارسة النشاط السياسي من قبل الأحزاب، و حرية التعبير عن الرأي، و ممارسة الشعائر الدينية، و بناء مؤسسات المجتمع المدني مما أسس لبناء العراق الجديد مدنيا و فكريا و مجتمعيا، و هذا الأمر ليس باليسير، كما قد يتراءى للبعض، فالخلافات والاختلافات والتناقضات التي تسود المجتمع أوجدت إشكالا من الصراعات الداخلية غير المنظورة فكريا و عرقيا و دينيا، وان مثل هذه الصراعات قد تمس نسيج المجتمع الذي من المفترض به أن يكون متساميا فوق الذاتية و الانتماءات و الولاءات المستندة إلى مضامين عشائرية أو فردية أو عرقية أو مذهبية، لان هذا ينعكس بالسلب على عموم المواطنين، وابرز الأمثلة الحية التي مثلت الواقع العملي لهذا الكلام هو التنقلات السياسية على السلطة في العراق التي قامت على أساس المحاصصة القومية والمذهبية.

  لكن ما سبق لم يكن مدعاة لليأس، وذلك لوجود بصيص أمل ونقطة تحول حاسمة من تاريخ العراق، وهي الانتخابات التي عدها المجتمع الطريق الوحيد للخلاص من سنين الظلم و القهر و الكبت و سيطرة قوى الظلام إلى بناء نظام تعددي تسود فيه قيم الحرية و الديمقراطية ويضمن حقوق كل المنتمين إليه، لذلك فان هذا المجتمع قال كلمته من خلال المشاركة الواسعة في الانتخابات على الرغم من مختلف التهديدات التي تعرض لها، و بغض النظر عن النتائج التي أفرزتها هذه الانتخابات، وعن من شارك فيها ومن لم يشارك، أو من كان مؤيدا لها ومن كان معارض إلا أن الكل يجمع بان المرحلة القادمة مرحلة هامة و حساسة من تاريخ العراق و سيتم خلالها إعداد دستور دائم للبلاد ينص على حقوق جميع العراقيين أكثرية أو أقلية في إطار المكون العراقي.

  من هنا فان مكونات المجتمع العراقي المختلفة السياسية والطائفية والاجتماعية والقومية أصبحت اليوم على المحك، وهي مطالبة بإنجاح المشروع الديمقراطي، وهذا لا يتم إلا من خلال إجراء الحوارات والنقاشات المسئولة، و تقريب وجهات النظر التي بدورها تساعد على التوصل إلى رؤية مشتركة في القضايا الأساسية التي تخص وطننا كإعادة الأمن والاستقرار ووضع جدول زمني لرحيل القوات المتعددة الجنسيات، والمشاركة في العملية السياسية، وكيفية إعادة بناء الدولة.

والمسؤولية الوطنية والتاريخية تشمل الجميع مسلمين ومسحيين، شيعة و سنة عربا وأكراد حيث يتوجب على كل العراقيين في الظرف الراهن من هذه المرحلة التسامي فوق أي فوارق جزئية، والتعامل معها بأفق واسع و رؤى بعيدة وضرورة اللجوء إلى من عرف عنهم التزامهم العقلاني و حكمتهم و ترويهم و تجردهم من رؤية الأمور بمنظار مذهبي أو عرقي أو طائفي أو تغليبهم للمصالح الفئوية الضيقة على حساب المصلحة العامة، وقد تناول الإمام الشيرازي ( قدس ) هذا الموضوع بوضوح في أماكن عديدة من مؤلفاته بما يوازن بين الطموح الفردي وتطوير المجتمع ككل، و يجعل ذلك الطموح جزء من عملية التطوير التي تحتاج دائما إلى شيء من التضحية التي تناقض الأنانيات الفردية الضيقة .

  إن مبدأ التوافق الإنساني والوطني المبني على التشاور في الظروف الحالية هو مبدأ هام لتجميع طاقات مكونات المجتمع العراقي و قواه الفاعلة، وسياسة التوافق الوطني هي الحل الأمثل، والطريق السليم، والسالك لإخراج العراق من مأزق الانقسام والتناحر إلى حالة البناء والنمو و الازدهار.

  ولكي يكون التوافق حقيقيا يتمتع بالشرعية اللازمة، ويحقق اهدافه ، لابد أن يأخذ بالمعايير التالية:

1- أن يحصل التوافق الوطني ضمن دائرة مصلحة الشعب العراقي العامة، وليس ضمن مصلحة المتحاورين السياسية أو الحزبية الضيقة بما يفقد المحاورة السياسية غطائها الشرعي.

 2- أن يكون التوافق الوطني في إطار العملية الديمقراطية من خلال ما أفرزته صناديق الاقتراع، وليس من خارج صناديق الاقتراع لان التحاور من وراء نتائج الانتخابات يعني لوي عنق العملية الديمقراطية، وتجاوز لإرادة الأمة.

3- أن يحصل التوافق الوطني بين المؤيدين للعملية السلمية والتداول السلمي للسلطة، لا مع الواقفين بالضد منها أو المرتكبين لجرائم مخلة بسلامة المسيرة الديمقراطية.

4- التزام أطراف الحوار الوطني بعدم تأييد عناصر الإرهاب المنظم أو دعمها أو توجيها، بما يجعل المتحاورين جزءا من التيار الرافض لتحول الديمقراطي.     

5- أن يقوم الحوار الوطني على أساس أعطاء كل متحاور حقه بما يتناسب مع حجم التمثيل  السكاني الأمر الذي يُحقق العدالة الديمقراطية، ويُوجد نوع من الرضا السكاني وبالتالي الاستقرار السياسي.

6- ان يكون هدف التوافق الوطني هو تحقيق التعايش السلمي بين مكونات الشعب العراقي وحماية الحقوق الإنسانية والاستناد الى الحوار كآلية ذاتية ثابتة في حل الخلافات مع الاعتماد على المطالبة السلمية الحرة بالحق.