عندما تزر وازرة وزر أخرى

أ . بدر الشبيب *

تهمة العلقمية التي تلاحقنا نحن الشيعة، والتي يسعى مرددوها إلى إلصاق صفة الغدر وخيانة الأمة بهذه الطائفة انطلاقا من قراءة أقل ما يقال عنها أنها واحدة من جملة قراءات لحدث تاريخي وقع قبل أكثر من سبعة قرون وبالتحديد في العام 656 هـ، عام سقوط بغداد، هذه التهمة تظل دليلا دامغا على عمق التخلف الفكري الذي تعيشه هذه الأمة التي لا تقرأ بعضها اعتمادا على معطيات الحاضر، بل تحتكم إلى قراءات منتقاة من كتب الماضين لتبني رؤيتها وفقها، وكأنها تعبر بذلك عن عجزها عن إنتاج رؤية جديدة مغايرة ومعاصرة تتجاوز التحليلات والتأويلات الجاهزة، كما تعبر عن عدم استئناسها الرشد من نفسها.

وتهمة العلقمية – لمن لا يدري، وهل هناك من لا يدري؟! – منسوبة لوزير الخلافة العباسية الأخير – الذي كان شيعي المذهب – مؤيد الدين أبي طالب محمد بن أحمد العلقمي، الذي اتهم بالخيانة والتآمر مع المغول ضد أولياء نعمته، الخليفة المستعصم وأسرته العباسية السنية المذهب، وأنه سهَل دخول القوات المغولية إلى بغداد بعد أن دخل في مراسلات سرية مع هولاكو، هذه باختصار قصة التهمة الأم التي ألصقت بهذا الوزير الشيعي، وهناك تهم أخرى لا مجال لذكرها هنا وهي تصب في نفس الإطار. وقد توسعت هذه التهمة الموجهة لشخص الوزير ليتم توجيهها إلى كل شيعي على مدى العصور المتعاقبة، تتوارثها الأجيال لتتحول من مجرد تهمة إلى حقيقة ثابتة، هولوكوست أخرى لا يرقى لها الشك.

ولست هنا بصدد مناقشة هذه التهمة ونصيبها من الواقع، فهذا بحث تاريخي موكول إلى أهله الذين يجب أن يبحثوا هذه القضية بتجرد وموضوعية، وأن يستفيدوا من المناهج الحديثة في فحص القضايا التاريخية. ولعل ما قام به الأستاذ الدكتور سعد بن حذيفة الغامدي، أستاذ التاريخ الإسلامي ودراساته الشرقية بجامعة الملك سعود بالرياض، من دراسة تحليلية ونقدية واستنتاجية في كتابه القيم سقوط الدولة العباسية ودور الشيعة بين الحقيقة والاتهام، يعد مثالا لما ينبغي أن يكون عليه الباحث التاريخي، من ناحية الاطلاع على كافة المصادر ذات العلاقة عربية كانت أو أجنبية، بالإضافة للقدرة التحليلية التي يمتلكها كمتخصص ممارس. وقد توصل إلى نتيجة ربما لا ترضي الكثيرين من أصحاب الآراء المعلبة حيث برأ ساحة ابن العلقمي والشيعة من تهمة الغدر والخيانة، وذلك بأسلوب علمي رصين.

ونسوق هنا دليلا واحدا من أدلته يؤيد به ما ذهب إليه قائلا:
لم يفرق المغول بين المسلمين، من أتباع المذهب السني وإخوانهم أتباع المذهب الشيعي أثناء اقتحام بغداد، فقد تعرضت الأحياء السكنية في بغداد الآهلة بالسكان الشيعة للهجوم العاصف المدمر، كما وقعت بقية أحياء أهل السنة تحت ثقل وطأتهم، فذاق هؤلاء ما ذاق أولئك، حيث ارتكب المغول دون حياء من الشناعات وأعمال القتل والنهب والسلب ضد أتباع المذهب الشيعي والسني على حد سواء، دون تمييز
.

أعود للموضوع الأساس وأعني به التخلف الفكري الذي نعيشه والذي تكشفه المسيرة الطويلة لهذه التهمة، التي فضحت جيناتنا الثقافية التي تحمل من الأمراض ما يكفي لإصابتنا بكافة أنواع العاهات والإعاقات. إذ كيف يسوغ في ثقافة من الثقافات – على فرض ثبوت التهمة على ابن العلقمي  – تحميل الشيعة من زمانه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها المسؤولية؟ هل يقبل عاقل أن يتحمل السنة مسئولية الجرائم التي وقعت طوال التاريخ الإسلامي على أيدي منتمين للمذهب السني؟ هل يقبل أحد من إخواننا السنة تحميله مسؤولية المقابر الجماعية في العراق بحجة أن الحاكم من الطائفة السنية؟
وإذا كان من صالح العدو الصهيوني سنيا، فهل يجوز أن نحمل السنة مسؤولية الصلح؟
إننا نحتاج إلى كنس هذه المباني الفاسدة من ثقافتنا واستبدالها بالمفاهيم الإسلامية النقية التي تركز على جملة ممارسات أخلاقية ينبغي أن تؤطر تعاطينا مع الآخر سواء داخل الدائرة أو خارجها، ولعل أهمها هنا العدل حتى مع الأعداء، وهو من المفاهيم الصعبة الغائبة عن ممارساتنا الاجتماعية، وأقول الصعبة لأنه يحتاج إلى قدرة قوية على التحكم في العواطف والمشاعر والميول، وضبط تأثير العوامل الخارجية، مما يعني ضرورة فهم الذات والمؤثرات السلبية عليها.
 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) سورة المائدة
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) سورة النساء
ومن العدل أيضا عدم تحميل من لا علاقة له بموضوع ما مسؤولية عن ذلك الموضوع، وهذا ما أوضحه القرآن الكريم في أكثر من آية:
 ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) سورة الأنعام
ومن العدل التجرد في البحث العلمي، ولو فعلنا ذلك لوصلنا إلى نتائج باهرة، أما إذا كان هدف أبحاثنا التوصل إلى نتائج مسبقة الصنع – كما هو غالب الأبحاث – فلن نصل إلى الحق أبدا لأنه ببساطة لم يكن مبتغانا.
ترى متى نفهم : ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) سورة النجم

أديب وكاتب وباحث في علوم اهل البيت عليهم السلام