أم الحمام : الشيخ الحرز « التحصين العقدي »

تحدث سماحة الشيخ سعيد الحرز حفظه الله في كلمة الجمعة 15 / صفر الخير/ 1426هـ في مسجد الإمام الحسن بأم الحمام وجاء حديثه تحت عنوان (التحصين العقدي ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى ﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾ (8) سورة آل عمران
أبداً لم يخُلق الإنسان عبثاً ولاتُرك سدى بل أُوجد من أجل غاية نبيلة وهدف سام ولهذ فهو يخضع لامتحانات متعددة وإختبارات مختلفة في سبيل معرفة مدى استحقاقه للنتيجة التي تنتظره في نهاية المطاف .
يقول تعالى : ﴿ أَلم - أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ- وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾
من هنا كان الإنسان والمؤمن خصوصاً معرضاً لامتحانات عسيرة وفتن وإبتلاءات ينال من خلالها استحقاقه لثواب الله ورضوانه وجنته وهو بالتالي محتاجَّ إلى جملة من التحصينات التي تحافظ على إيمانه وتحقق دوام هدايته ، وخاصة ونحن في زمن كثرت فيه الفتن وتعددت الابتلاءات ونخص هنا بتلك الفتن المعرفية التي تتناول عقيدة المؤمن إذ لا شك أن هناك فتن آخرى تتعلق بالسلوك إلا أنها لا ترقي في خطورتها الفتن التي تطال العقيدة وتزعزع الإيمان ، حيث أن مآلات هذه الفتن وخيمة إذ أن من شأنها تأسيس وشرعنة كل إنحراف سلوكي ، ولهذا فهي - أي العقيدة - تحتاج إلى تحصين منهجي يكفل بقاءها ونقاءه .
ويمكن هنا أن نذكر عدة محصنات تكفل الحفاظ على سلامة العقيدة من التزعزع :
1- التربية التأسيسية
لم يكن الأئمة يؤمنوا بأسلوب التلقين بل دائماً يحثون أصحابهم على التفكر والتدبر والتساؤل المستمر والإهتمام بالدراية قبل الرواية وهم
يصنعون بذلك عقولاً مفكرة لا بغبغات تردد الشيء ولا تعقله .
ولهذا هم الذي يحثون أصحابهم على مُسألتهم ، فقد روي عن الإمام الباقر أنه قال لأصحابه ( إذا حدثتكم بشيء ما فسألوني أين هو من كتاب الله تعالى ، ثم قال في بعض حديثة : إن رسول الله
نهي عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال فقيل له : يابن رسول الله ، أين هذا من كتاب الله؟ قال إن الله تعالى يقول :
﴿ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ وقال ﴿ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً ﴾ وقال ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ 1
فالإمام هنا يُربي أصحابه على السؤال والإثارة و المعرفة المبتنية على التعقل لا على التلقين ، فهو يريدهم علماء عارفين لا حفاظ ناقلين يضطربون لأقل شبهة ويتزعزعزن لأدنى فتنة بل إننا نجد الأئمة يلقون الأصول التأسيسية للشريعة والتي تعد مفاتيح العلوم ومخارجاً لمشكلاته .
فقد روي عن عبد الأعلى قال قلت لأبي عبدالله : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على أصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء قال :( يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله قال عز وجل ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ُ﴾ امسح على المرارة )، فنرى الإمام هنا يقول ( يعرف هذا واشباهه من كتاب الله )
وهو بذلك يريد أن يعلم أصحابه أسساً وقواعد عليها يسيرون , وهذا الذي ينبغي أن نفعله في نطاق التربية المعرفية والعقدية , إذ لا يجوز في زمن الإنفتاح على كل الفضاءات الثقافية المختلفة أن نمارس دور التلقين الذي يسقط أمام أول مجابهة مع المختلف عقدياً أو فكرياً , بل لابد من الغاء الأصول والقواعد التي من خلالها ومنها يدافع المؤمن عن عقيدته .
2ـ معرفة المحكمات
فكما القرآن فيه محكمات ومتشابهات يتوجب فيها الرجوع إلى المحكمات كذلك في القضايا التاريخية أو حتى في الحوادث التي تصادف الإنسان .
إننا طالما سمعنا أن الحسن وادع عن ضعف أو صالح عن حب للدعة وراحة العيش فهو الذي لم يكن همه إلا الزواج و الطلاق ولا شأن له بأمور الإدارة والسياسة , إننا إذا أخذنا هذه الشبهة من خلال ما يذكره بعض المؤرخين دون الرجوع إلى المحكمات الحديثية التي أثبتت الإمامة لهذا الشهيد المسموم وأثبتت كونه سيد شباب أهل الجنة , فإننا سنسلم بهذه الشبهة .
وكذلك إذا لم تُرجع هذه الشبهة التاريخية إلى محكمة تاريخية أخرى وهو عزم الإمام الحسن على الحرب لولا خذلان الأقربين والأبعدين وإذا لم تُرجع إلى محكمة أخرى وهي لاتقبل الرد أو الشك وهو كون الإمام الحسن مات مسموماً بتدبير من معاوية الذي كان يقول أن لله جنوداً من عسل , إذ لوكان الإمام الحسن كما يدعون من الدعة والركون إلى الراحة لماذا يجهد معاوية نفسه بتحمل قتل تبعة إنسان لا هم له إلا النساء والراحة ألا يحق لنا أن نتسأل هذا السؤال وفقاً لهذه الشبهة حينها سنجد أن هذه الشبهة تتساقط أسرع من أوراق الخريف .
3ـ التواصل مع المصادر
لم تكن المعرفة الدينية يوماً من الأيام حكراً على أحد أو موصدة في وجه أحد بل لا تزال المعرفة الدينية هي من أسهل المعارف تناولاً سواء ً كان ذلك على صعيد الكتاب أو على سبيل التواصل العلمائي مع الناس أو على سبيل الأنخراط في صعيد المعاهد والحوزات العلمية .
إن التواصل المستمر مع مصادر المعرفة الدينية يعد من العوامل المهمة جداً في التحصين العقائدي كما أنه ليس من الصحيح الأدعاء على أن العلماء أو المشايخ يعيشون بعيداً عن الناس في قمم عالية حيث أن ذلك لو صح لنطبق على فئة قليلة منهم , فقط فهم من يفتحون قلوبهم قبل مجالسهم للناس ليتواصلوا معهم ويغذوهم من علوم آل محمد .
لقد كان الأئمة يدعوا أصحابهم إلى الذهاب إلى العلماء من أصحابهم حتى يأخذوا من علمهم ويرفعوا عنهم شبهات الآخرين , فعندما يسأل اسماعيل بن الفضل الهاشمي أبا عبد الله الصادق
عن المتعة قال له الإمام : ( ألقِ إلى مالك بن جريح فسأله عنها فأن عنده منها علماً( يقوإسماعيل ) فلقيته فأملى عليَّ شيئاً كثيراً في أستحلالها , وكان فيما يروي فيها أبن الجريح أنه ليس لها وقت ولا عدد .قال ( إسماعيل ) فأتيت بالكتاب أبا عبد الله صلوات الله عليه فقال : صدق . وأقر به ) 2 .
إننا في زمن أنفتح فيه الكل على الكل ولا خصوصية فيه تحفظ مالم تكن هذه الخصوصية قادرة على العيش في بيئة لا بقاء فيه إلا للقوي , والقوة هنا تتعدى مفهوم المادة إلى مطلق القوة المادية والمعنوية والمعرفية, ونحن لا نشك في قدرة خصوصيتنا على البقاء ولكن إذا عقلنا هذه الخصوصية وفهمناها تجاوزنا به مرحلة الأرث والوراثة والتراث إلى مرحلة الإيمان والقناعة ﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾