مسافة .. ما بين الحلم والواقع

عقيلة آل حريز *

   

ربما قد تكون مأساتنا الحقيقية أننا أحياناً نجيد فن الكذب ونصدق أصداء كذباتنا حين نقرر أن نصغي لها حتى على أنفسنا .. !! .. يغالبنا شعور بالنقاء دوناً عن البشر ونعجب من أنفسنا حين نحتل مساحات وبقع بيضاء نزرع ذواتنا داخلها بعمق وننثر فوقها عقود اللؤلؤ الحر وكأننا نؤلهها لتصبح بلا خطايا .. وبين أول السطر وآخره تنتفخ حقائق بغيضة لا نرتضيها قد نكتشفها عند القراءة فجأة .. !! ، وننسى حينها أننا بشر ، لنا ما للبشر من هفوات و ترنو أمنياتنا لسلم الأملاك أحياناً .. لكن هذا ليس دائماً .. !

  قد نستفيق يوماً من سباتنا فجأة وندرك كم كنا غافلين في حجم رؤيتنا للأمور وفي مدى تقديرها .. ونشعر أحياناً بالامتنان لبعض الظروف المعارضة وبكم أن العجز قد خدمنا عن تحقيقها لكي لا نلهث وراءها بلا طائل ..

المرء عادة يمتلك الكثير لكنه أيضاً يطلب المعجزات .. وهذه المعجزات من النوع السهل المريح التي يرسمها خياله حين يريد أن يحلم حلماً سهلاً لا يرتبط بالواقع .. ففي لحظة واحدة يجد نفسه وقد استعد للتصدي لكل شيء يقف في طريقه ويمنعه من تحقيق هذا الحلم مهما كانت خسائره وإن كلفه الأمر أن يدوس أحلام آخرين كان معهم يبني صروحاً وقصور حرة .. !

قد تغلب الأنانية طباعنا لو صدقنا الأمر وتمادينا في التفكير وقررنا أن نعبث ببعض الحقائق ونغيرها فنسير خلفها مأسورين كنيام أو أشباه نيام دون أن يكون للعقل والمنطق دور في تقييمها أو إعادة بلورتها بشكل صحيح ..

وحين يجرب الآخرون أن يضيئوها لنا برؤياهم فيمنعونا من التحليق عالياً خوفنا من وقوعنا على الأرض .. نجلدهم ونلعن ذواتنا معهم لأننا استمعنا لهم وتلمسنا نصحهم منذ البداية .. وللأسف نسحب بساط الرضا عن آخره من تحت أقدامهم وبكل مقاييس الغضب الساخط والانفعال الحاد نجردهم من بقعة ضوء كانوا يقفون عليها داخلنا بحكمة .. ليصبحوا فجأة ضدنا .. !!

 فتبدأ رحلة طقوس أخرى نعيشها ما بين الفوضى والقلق .. والوحدة .. والاضطراب ..  تربكنا وتحرمنا من أن نحظى بتأييدهم ودعمهم  لقراراتنا .. وهنا يبدأ الصراع ...

 نتعالى على الفكر .. العقل .. اليقين والمنطق .. ونتعالى عن البحث عن مناطق الخلل الذي أصابنا وأربك أمورنا معه فجأة .. لكننا لا نتعالى عن السير وراءها مغمضي العينين .. وحين ندخل في متاهات الضباب الكثيف تعمى أبصارنا عن رؤية الأبعاد الحقيقية للأمور .. ونجد أنفسنا وقد اختلطت علينا الأشياء والمشاعر بتداخلات كثيرة وغريبة لم نكن نألفها .. ولم نعد ندرك ما الواجب علينا حياله وماذا يمكننا أن نصنع !!.. ونصبح كمن يقف أمام هياكل من المعاني المهجورة التي لا تنطق بحقيقة واضحة  حول مشكلتنا ولا تعني أي شيء يمكننا لمسه غير مجرد سراب .

 ننسى المنطق .. وننسى الحوار معه ، وننسى كل ما كنا قد خططنا له سابقاً وعزمنا على تنفيذه .. بل ننسى حتى مشوار طويل قطعناه على مراحل طويلة وصعبة ، نحكي فيه عن أنفسنا بجدية وبصدق لنعيد رسم صورة لنا كادت معالمها أن تطمس في عيون الآخرين .. وفجأة تندك حصون البنايات التي صنعناها وتنهار طوابقها علينا ... فنتزلزل خلفها بلا أي مقدمات .. !!

 لا أحد بالطبع يمكنه لوم الناس على أحلامهم .. تماماً كمنطق لا أحد يعيش بلا حلم  ... فالأحلام  لغة سهلة معبرة .. جميلة ومريحة .. نحتاجها لنفرغ ما بداخلنا من أمور بغيضة في الحياة .. لكن التحليق فيها بلا عقل أو ضوابط لا يخدم واقع ما نريده دوماً .. 

قد يخجل المرء مما يصنع حين تتعرى حقيقة أحلامه ويظهر فشلها أمام الجميع .. لكن وحده فقط الذي يوثق الأحلام بأرض الواقع ولا يذهب بها بعيداً هو من ينتصر ..

 من المهم أن يهدأ المرء ليفكر ويتخذ قراره على ضوء ساطع حتى لا ينجر لأشياء لم يكن يلتفت لها أو يتوقع ارتدادها العكسي عليه .. ومن المهم أيضاً أن يستمع لمن حوله .. يحلل .. يدرس .. ويفكر بطريقة أخرى تختلف عن الخيال .. العاطفة .. التشنج في الرأي .. ليتمكن من وضع النقاط بطريقتها السليمة. 

لكن من الأكثر أهمية أن يكون عادلاً ومنصفاً حين يشاء أن يكون خصماً وحكماً لقضية خصمه الآخر فيها أعزل من كل الحجج التي يمتلكها ولا ذنب له فيها غير أنه يجهل كيف تسير بعض الأمور بداخلنا .. !

 

كاتبة وقاصة (سعودية )