قصتي مع القراءة

حسين أحمد بزبوز *

      كثيرة هي تلك الأشياء التي تبدأ صغيرة و تنتهي كبيرة ، فلحظة غضب قد تبدأ بكلمة بريئة يساء فهمها و تنتهي بحادثة قتل مريرة ، و زلة لسان عفوية قد تزج بإنسان في السجن أو توصله إلى حبل المشنقة ، و رسم كاريكاتير صغير في الصفحة الأخيرة لصحيفة منسية قد يقلب الأوضاع السياسية بين أمتين من أمم الأرض رأسا على عقب ، و ضربة حظ أو توفيق قد تنتشل إنسان فقير من قيعان الفقر لتصعد به لأعلى المقامات ، و كلمة بسيطة قد تتحول لماركة عالمية مشهورة.

       هكذا هي الحياة ، فكثيرة حقا هي تلك الأشياء التي تبدأ صغيرة لكنها تنتهي كبيرة ، بل كبيرة جدا أحيانا ، فالإنسان و التمساح و الحوت و الأشجار المعمرة و قطرات المطر و المشاريع التجارية الضخمة و الكتابات الأدبية و العلمية و الأفكار و الاختراعات ، كلها تبدأ صغيرة و تنتهي كبيرة ، و كما يقولون فـ: 'مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة'.

       وعندما كنا صغارا ، كانت أفكارنا و عاداتنا أيضا صغيرة ، فلم تكن القراءة بالتأكيد شيءً فطريا بالنسبة لنا ، و لم أكن أنا - و أنا واحد من الناس - واحدا من عشاق القراءة و الكتابة ، و لم أكن أعرف حينها ما هو الوعي ، لا ما هي الثقافة ، بل درجت كما درج الآخرون في المدارس ، و واجهت الصعوبات التي يواجهها الكثيرون ، وأيضا صعوبات أخرى قد لا يواجهها إلا المحظوظون في سلم المنغصات أمثالي. فلم تكن الحياة يوما خالية من التعاسة و السعادة الممزوجتين معا ، ولم يخفف كل تلك الصعوبات إلا جو الأسرة الهاديء ، و الحنان الغزير الذي غذيت به. فعندما كنت في الصف الأول الابتدائي عانيت الذهاب إلى مدرستي الابتدائية (مدرسة زين العابدين الابتدائية قبل التجديد) مشيا على الأقدام ، و كنت أحظى حينها بترحيب حار عند قطع المشوار من المنزل إلى المدرسة من كلاب (أجلكم الله) سكنت حي الدبابية ، حيث كانت تؤدي التحية الصباحية للمارة في منطقة قريبة جدا من المغتسل الموجود حاليا ، و الذي ربما لم يكن موجودا هناك سابقا. و لم يكن يوجد حينها شيء اسمه (ميكروا باصات للنقل المدرسي) ليستغني الإنسان عن قطع المشوار ماشيا على قدميه. كان هذا في الصف الأول الابتدائي ، ثم في الصف الثاني الابتدائي ، وبعدما انتقلت مدرسة زين العابدين الابتدائية لمدرسة أبو ذر الغفاري بغرض إعادة بناء الأولى ، تعرضت أثناء العودة من المدرسة برفقة أحد الأقرباء في أحد الأيام لمحاولة اختطاف فاشلة خلف مصنع الثلج القريب من المدرسة ، أو قريبا منه ، حين كانت تلك المنطقة خالية من البنيان تقريبا. فضربت برجلي في الأرض خائفا حافيا ، كما يضرب أي طفل خائف برجله ، بعد أن خلعت حذاء السبعة أدوار. و هربت مع صاحبي إلى حي الكويكب حيث كان يسكن بعض أقاربه هناك. و لم أكد أعرف الاستقرار المدرسي حينها إلا بعد افتتاح مدرسة النخيل الابتدائية بحي الشويكة في مبنى مستأجر مقابل مستشفى القطيف المركزي القديم.

       بعد سنتين أو ثلاث تقريبا من الدراسة في مدرسة النخيل الابتدائية ، تسلم الإدارة الأستاذ علي هلال. الذي كان مدرس العلوم سابقا في نفس المدرسة. و كان معلما حظي بالحب في قلوبنا الكبيرة مدرسا ، و الرهبة في أعيننا الصغيرة عندما أصبح مديرا. و لازلت أحتفظ له بصورة بقيت معي منذ أيام الدراسة. و كان في المدرسة أيضا الأستاذ الطهراوي ، الذي درَّس ثلاثة أو أربعة أفراد من العائلة ، ابتداء بوالدي رحمه الله. و كان أيضا الأستاذ العسلي ....و (آخرون كانوا هنا). أحببناهم جميعا و عشقناهم بطفولتنا البريئة ، ولم نَكن نُكن لهم في أنفسنا إلا كل خير. و كانت مدرسة النخيل الابتدائية بدايات جميلة بالنسبة لي ، خصوصا عندما أتذكر حصة الرياضة و الذهاب لشراء الأيسكريم من بوفية كانت لصيقة بالمدرسة ، أو التسلل أثناء حصة الرياضة (الفارغة) إلى البساتين القريبة جدا منا. و يكفي للبهجة أن تكون المدرسة قريبة جدا من منزلنا.

       ربما لم تكن هذه البدايات جوهر قصتي مع القراءة ، لكن حصلت فيما بعد أحداث متلاحقة أكاد أجزم أنها البذرة الأولى لهذا العشق الذي خلق ليبقى و يدوم و يتجذر. فزيارة مكتبة أرامكوا المتنقلة للمدرسة كانت و لازالت من الذكريات الحلوة التي لم تمحى ، و لن تمحى أبدا إنشاء الله من ذاكرتي ، رغم أنني لا أتذكر أنني ممن زار تلك المكتبة أصلا ، لكنها تبقى ذكرى سعيدة و حدثا مؤثرا. و من جهة أخرى ، أتذكر أيضا حدثا أخر أكثر تأثيرا و أكبر أهمية في روحي الطفولية البريئة ، التي عشقت و أحبت القراءة حتى الثمالة فيما بعد. ذلك الحدث تمثل في أحداث بسيطة ظاهرا ، لكنها كبيرة مضمونا و جوهرا ، تمثلت في قراءة و استعارة قصص سلسلة 'ليدي بيردز' الفاخرة و المشهورة من مكتبة المدرسة ، و على رأس القائمة كانت قصة (الكعكة الهاربة) ، تلك القصة التي كان لها طعم الحلوى في فمي و على قلبي البسيط. و الذي رسخ تلك الذكريات أكثر أيضا ، و ربما زادها صلابة في الذاكرة ، محاولة اختطاف إحدى تلك القصص الجميلة ، التي كنت استعرتها من المدرسة ، مني ، و الجري القلق بعدها خلف اللص في أزقة الشويكة ، حيث كنت أسكن مع أفراد العائلة ، و تمت المطاردة في الزقاق الممتد حيث كانت بقالة الحاج أبو علي العرقان ، حيث الحسينية المقامة مؤخرا بجانب مسجد الشيخ رضي المحروس (رح).

       ربما كان الحب من أول نظرة هو الفاعل الأبرز هنا في ظهور تلك الرغبة الجامحة في القراءة. و الصور المزركشة و الملونة ، و الكلمات البسيطة بسيمفونيتها العذبة و نغمتها الهادئة ، و الخيال المسافر في العوالم القابعة خلف عالم الواقع بمسافات شاسعة ، هي الرحم الأولى التي أنجبت القراءة. لكن ، كل مولود يحتاج رعاية ، فكيف تستمر الرحلة إذا ، و الحياة مليئة بمداخلات الواقع؟.

       بالتأكيد لا يكفي الحجز على رحلة طيران ، و قطع (البوردينج) أو تذكرة الإركاب ، للوصول إلى الهدف ، دون  ركوب الطائرة. و هذا ما حدث معي فعلا ، فبعد أن أحببت القراءة أو قبلها بقليل ، كنت أقف في نهاية تصنيف الخمسة الأوائل في الصف ، ثم بدأت رحلة الصعود رويدا رويدا ، و تجذر عشقي للقراءة مع الوقت.

       لم أصل المرحلة المتوسطة فيما بعد ، إلا وقد أصبحت من الزوار الأسبوعيين للمكتبات ، أو إن كانت الذاكرة قد خانتني ، فإن ذلك بالتأكيد قد بدأ في مرحلة مبكرة من تلك المرحلة الدراسية.

       في الفصل الدراسي الأول من الصف الأول المتوسط أحرزت المركز الأول على مستوى طلبة الصف الأول المتوسط على مستوى المدرسة ، و كوفئت بجائزة قيمة. ثم خلال بقية المرحلة المتوسطة كان هذا المركز نقطة سجال بيني و بين أحد التلاميذ ، الذي أصبح فيما بعد أحد الأصدقاء الأعزاء ، الذين ضمني و إياهم فريق خماسي تشكل من مجموعة أصدقاء أعزاء كانت ولا زالت لهم ذكريات عذبة و رائعة في نفسي.

       في هذه المرحلة ترددت على مكتبات و قرطاسيات كثيرة ، قد لا أذكر بعضها الآن ، و كان من أبرز تلك المكتبات مكتبة الساحل و مكتبة النور و مكتبة عماد العصرية و مكتبة و قرطاسية أسيا الصغرى في مياس و مكتبة كانت في شارع المطاعم بحي القلعة و أخرى كانت قريبة من مصنع الثلج قرب الدفاع المدني ... الخ ، و مكتبة تهامة في الدمام قرب البريد حيث كان يعمل والدي - رحمه الله -. كنت راحالة الكتب و المكتبات حينها ، أجوب بحثا عن مكتبة جديدة أينما وجدت ، لأبحث فيها عن حكايات و إصدارات قد لا تصل بقية المكتبات. و كنت أجمع من مصروفي اليومي كل أسبوع ما يقارب (الخمسة و عشرون ريالا) ، ثم أذهب لزيارة المكتبات نهاية الأسبوع ، لأشتري منها ما لذ و طاب. و كنت أتردد غالبا على مكتبة و قرطاسية الساحل أو عماد أو النور.

       كانت المجلات و القصص كثيرة و متنوعة و بعضها يظهر و يختفي ، و كان من تلك المجلات: مجلة ماجد التي كانت تتصدر القائمة ، ثم ميكي و ميكي جيب و بطوط و سعد و سمير و كابتن ماجد و افتح ياسمسم و سمور.... الخ - و العتب على الذاكرة في طرح بعض الذكريات ،  أو الخطأ في بعضها الآخر -. و كان من القصص: الكعكة الهاربة و سام و الفاصوليا و الأميرة و حبة الفول و رحلة عنبر... الخ. وكان من الكتب: حكايات كليلة و دمنة. و كانت الأسعار حينها زهيدة جدا ، فمجلة ماجد مثلا بريالين ، و مجلة سعد بريال واحد فقط لا غير ، أما أغلى المجلات فقد كانت لا تتجاوز الستة ريالات كمجلة ميكي جيب مثلا. و هكذا استطعت أن أصعد الطائرة و أن أواصل الطيران.

       اشتريت جهاز كمبيوتر نوع (صخر) مباشرة بعد المعرض الذي أقيم في المقر الذي أصبح حاليا صيدلية الحسين ، و قرأت كتب البرمجة ، و تعلمت خفاياها العديدة عبر القراءة ... و الحسابات ... و التجارب العملية على الأوامر ... و التدوين و البحث ... الخ ، ثم صممت مجموعة من الألعاب الرسومية التي أصنفها على أنها متقدمة ، اعتمدت فيها على إعادة (تشكيل) و (تلوين) الرموز الهجائية و غيرها التي تستعمل في جهاز الكمبيوتر ، بدل البرمجة بالاعتماد على طرق رسم أخرى أبسط و أقل جودة.

       ثم جاءت المرحلة الثانوية بنكساتها و تجاربها الجديدة و المختلفة تماما. فانخرطت ضمن مجموعة من الشباب المتدين. و أصبحت المدرسة بالنسبة لي محطة أوتوبيس أو وكر للعدو. تجاهلتها تماما و أهملتها ، رغم انزعاج العائلة. و تجاهلت مكتبتي القصصية الكبيرة أيضا ، و دمرتها تحت أشعة الشمس و زخات المطر فوق سطح المنزل ، بعد أن كنت أحفظ نسخها مغلفة داخل أكياس مفردة ثم في صناديق. و ركزت اهتماماتي على الجانب الديني فقط لا غير ، كـ : الصلاة و الصوم و المسجد و العمامة و الثقافة الدينية و الطهارة و النجاسة و العزاء و الأكل بثلاثة أصابع و حضور الجنائز و قلة شرب الماء و الزهد في الطعام و بدء الطعام بالملح و اختتامه بالملح أيضا ... الخ.  و كانت الآخرة هي الهدف المنشود فقط ، و القلق منها هو المسيطر دائما.

       أتصور أن هذا القدر من التجربة كافٍ ، رغم بقاء تفاصيل أخرى في الذاكرة لإيضاحات قد لا يحتاجها القاريء هنا. لذا فلتبقى إذا تلك الذكريات طي الكتمان. و طبعا لا بد من التأكيد هنا أن عشق القراءة استمر رغم التحولات. فكنت أقرء في تلك المرحلة كتب الإمام الخميني (قدس سره) بشغف كبير ، و قرأت أيضا للسيد أحمد الفهري (قدس سره) كتاب (الرياء و العجب) ، و قرأت قبلا للشهيد الصدر (قدس سره) كتاب فلسفتنا بصعوبة ، و بانجذاب قرأت أيضا كتاب الطفل بين التربية و الوراثة ، و كتبا أخرى كثيرة لا حاجة لذكرها الآن. لكنني أدركت فيما بعد في المرحلة الجامعية تحديدا ، أنني يجب أن أعود كما كنت في المرحلة المتوسطة ، أقصد أن أعود لأقرأ بشغف الأطفال بالقصص و الحكايات في مجالات متحركة ، و أن أتحرك دوما من أجل التطور و بناء الذات و من أجل التخصص و النمو و الإنتاج. لأنني أدركت أن بناء الذات هو المقدس و المقدمة لكل ما سواه ، و أن الفشل فيه هو الفشل في كل شيء ، و بقي الهم الديني دون تغيير يذكر. لكنني أدركت في مرحلة الوظيفة فيما بعد أن الروحانيات و العبادات يجب أن يكون لها حجمها الطبيعي الفطري المنسجم و المتوازن مع بقية المكونات الشخصية للإنسان.

       و أريد أن أتوقف هنا ، لأنهي التجربة السابقة ، و أبدأ بعدها سرد تجربة لاحقة ، بنيت على تراكمات التجربة الأولى. تلك التجربة تمثلت في تجربة مع الأخوات ، تغذت فكرتها أصلا من خلاصة تجربتي الأولى في صباي مع القراءة ، تلك التجربة التي أثرت في فهمي للكيفية الممكنة لانبثاق عادة القراءة و تطورها و آثارها على حياة الإنسان.

       فقبل حوالي الأربعة عشر عاما تقريبا ، آمنت و انبثق في وعيي أن القراءة تبدأ كما بدأت معي ، أقصد أنني آمنت أن القراءة يجب أن تبدأ بالرغبة ، و تنطلق بالعشق ، و تتغذى بالخيال ، و تتعشى بالمزيد من الكتب الشيقة و المفعمة بالحياة.

       و لكي أكون أكثر دقة و وضوحا هنا ، أؤكد أن الإنسان لا يبدأ عادة القراءة غالبا إلا بالحب. فهو يبحث عن صور جميلة ، و كلمات عذبة ، و عبارات سلسة واضحة ، و حبكة شيقة ، و يبحث عن شيء ما ، يجسد ميوله الفردية ، و هواياته ، و تطلعاته. لذا لا بد أن نقدم الكتاب المناسب ، و المجلة المناسبة ، و البرنامج المناسب ، للشخص المناسب. و هنا إشارة عابرة أن لكل قضية موضوعها الخاص و تفاصيلها المناسبة.

       لقد آمنت أن الشرارة الأولى لعادة القراءة تبدأ من ذات الفرد نفسه ، الذي يراد له أن يكون قاريءً. فالطفل يحتاج للقصص الخيالية الملونة المبسطة ، و المرأة الحامل تحتاج كتب و مجلات شيقة عن الحمل و تربية الأطفال ، و عشاق السيارات يحتاجون كتب و مجلات شيقة متخصصة في السيارات ، و عشاق الطبخ يحتاجون كتب و مجلات شيقة في موضوع الطبخ ... و هكذا ، طبعا إذا كانوا يحبونها هكذا. فما المانع من تغذية الإنسان بما يحب؟! إذا لم ينتج ذلك ضررا. و ما العيب في تنوع و تعدد التخصصات و المهارات؟!. هذا مع العلم أن عادة القراءة إذا تغلغلت في نفس الفرد ، و سيطرت على سلوكه ، فإن اتجاهها أو توجيهها إلى ميادين أخرى أنفع و أفضل يعد أمرا متيسرا. و المهم أن يملأ هذا الوعاء الفارغ (عقل الإنسان) بما يفيد ، لأنه كما يقولون 'كل إناء بالذي فيه ينضح' ، و البشرية تتطلع دائما بلا شك لمزيد من قوى الإنتاج و الإبداع و العقل.

       من هنا ، قبل أربعة عشر عاما تقريبا ، بدأت مع الأخوات الصغيرات مشوارا طويلا ، عبر برنامج عملي هدفه الأول و الأخير بناء الشخصية الشغوفة بالكتاب ، و القادرة من ثم على التفوق و الإبداع. و كان البرنامج يتمثل خلال سنوات في وجبات شهرية (بمبلغ تراوح بين 80 – 150 ريالا شهريا أو أكثر بقليل) من مكتبة جرير أو المتنبي أو غيرها ، و كانت الوجبة عبارة عن مجموعات من قصص و مجلات الأطفال الشيقة و المفيدة (1). و التي تدرجت فيها مع الوقت تنويعا ، فمن قصص مصورة قليلة الكلمات ، إلى قصص جميلة بسيطة العبارات ، ثم قصص أخرى جميلة أكثر غنى بالمفردات و المرادفات و التعابير اللغوية ، ثم بعض الكتيبات ، و أخيرا مجلدات ضخمة من الروايات الشيقة - ولاحظ هنا قضية إشباع القاموس اللغوي بالمرادفات اللغوية و التعابير و المصطلحات ، عبر مراحل متدرجة ، و ما لهذا من أثر في تعميق قدرات الفهم و الاستيعاب و التفكير العام ، و بالتالي القدرة على توليد النجاح و التفوق و الإبداع -. و أحب أن أشير هنا إلى أنني كنت أيضا في بعض الفترات أقدم بطاقات للاتصال بالإنترنت ، كجانب إضافي آخر لتشجيع القراءة و الانفتاح على المعلومات و التطورات المعاصرة.

       و كانت النتيجة الملموسة بالتأكيد تفوقا حقيقيا و شغفا دائما بالقراءة تولد لدى الأخوات ، تفاوتت نسبه طبعا من فرد لآخر في الأسرة. و شواهد التجربة الحقيقية الكاملة كفيلة بالبوح هنا أن التجربة لا تكتمل إذا تدخلت عوامل أخرى لتفسد التجربة ، إلا إذا كان هناك من يتابع و يهتم و يؤثر إيجابيا باستمرار.

       و المهم هنا ، أن شغف الأخوات بقراءة مجلدات (هاري بوتر) الضخمة مثلا ، و تفوقهن الدراسي الواضح ، بحيث رشحت إحداهن هذا العام لدورة صيفية قدمها برنامج سمو الأمير محمد بن فهد للموهوبات ، كل ذلك شاهد قوي على أن النحت المستمر لقطرات الماء فوق الصخر يصنع المستحيل ، و عقولنا بالتأكيد ليست صخرا ليصعب التأثير فيه.

       كما أحب أن أشير هنا لتجربة أخرى زامنت التجربة السابقة ، لكنها كانت تجربة مختلفة المجال تماما ، لأنها اتجهت نحو تطوير مهارات أخرى على صعيد فن الرسم. حيث خصصت وجبة شهرية أيضا ، كانت عبارة عن مجموعات من: أقلام التلوين بأنواعها المختلفة ، و أقلام الرصاص بدرجات متفاوتة ، و رزم ورق الطباعة A4 ، و أحيانا: رزم ورق شفاف (من ذلك المخصص للف السندويتشات) و كراسات رسم و كتيبات تلوين. كل ذلك بهدف تنمية قدرات الرسم و التلوين. و كانت النتيجة واضحة هنا أيضا. حيث كان من شواهدها مشاركة الأخت السنة الماضية في دورة صيفية بمركز الخدمة الاجتماعية بالقطيف ، و خروجها بإنتاج يكشف تطور تلك القدرات عبر الصقل و الممارسة المستمرة ، و التي لم تكن خافية على أحد في الأسرة من قبل. لقد أبدعت الأخوات و إن تفاوت الإبداع. و لا شك أن التجارب السابقة التي مرت بها الأخوات كان لها الأثر البليغ في تطوير القدرات و صقل المهارات.

       إن ما أريد أن أخلص إليه هنا ، هو أنه إذا كان زيف الأفكار من صدقها يكشف عبر التجارب العملية ، فهذه التجارب التي سقتها هنا كفيلة بأن تقدم شيء من هذا الدليل العملي الذي يضع بعض النقاط على الحروف ، و يرسم بعض الخطوط المنهجية لما يمكن أن يقتدى به و يستفاد منه. إننا بلا شك لكي ننجح بحاجة أن ننطلق من الدوافع الفردية التي يمكن أن نتلمسها لدى الأفراد ، لنخلق منها هذا المستحيل ، ألا و هو: (القراءة في عالمنا العربي).

  •   خاتمة:

     لازلت حتى اليوم أرسم في أحلام اليقظة التي تداعبني بين فينة و أخرى ، صورة لفارس وسيم يمتطي حصانا أبيضا ، لا كفرسان الأميرات الحالمات ، يرتدي لباس بابا نويل ، لكنه يحمل قلبا عربيا مسلما ، و يجر خلفه عربة مليئة بالكتب الجميلة و القصص و الهدايا و الحكايات ، يمر في سمائنا ذات ليلة مقمرة. عله يشاهد ما نحن فيه من تخلف ، فيقرر في صمت لا يفضح الأسرار ، أن يفتتح في خفاء الليل مكتبة عامة ، تكون مخصصة فقط و فقط للصغار. فتكون المكتبة مليئة بشغب الساحرات و نقيق ضفادع الأميرات المسحورات و القدور السحرية التي تمتليء بالطعام عندما يطلب منها ذلك و الدمى التي تتحرك بذاتها بعد أن يصنعها الصبية الصغار. أو لعله يضع بالمجان ، كل ما في جعبته من قصص شيقة و ألوان ، هبة خيرية في ركن ما من أركان أحد مجمعاتنا التجارية أو مؤسساتنا الاجتماعية ، بعيدا كل البعد عن طمع التجار و رغبتهم الدائمة في الربح و الاستكثار.

       و لازلت أيضا ، أحلم بصورة شاب يحمل هما ثقافيا ، يكون شغوفا باستنطاق تجارب الآخرين عبر برنامج ربما يسميه: (أفعال تسبق الأقوال) أو (تجارب) أو (وما يصنعون). و لن أطلب منه طبعا أن يستنطق تجاربي الفقيرة و الضئيلة ، لكنني سأطلب منه حتما استنطاق تجارب العلماء الكبار و التجار و الفنانين و الشعراء و المبدعين في القطيف الصامتة خصوصا. لأن في تجارب أولئك الكبار عبرة أكيدة لأولي الألباب و أصحاب العقول ، الذين نتمنى أن يجعلنا الله منهم.

       و يبقى هنا الخيال و تبقى الآمال نصيب أمثالي ، الذين لا يجدون ما ينفقون غير الجمل و الكلمات و القيل و القال. و يبقى الأمل بالتقنيات الحديثة و الشبكة العنكبوتية و الـ DSL  و أجهزة اللابتوب و القنوات الفضائية ... الخ. و قبل كل ذلك الأمل الكبير بالله ، أن يحقق تلك الآمال و التطلعات ، التي نتمنى أن تغير واقعنا لأحسن حال ، و هو سبحانه المستعان من قبل و من بعد ، وعليه الاتكال.

 

(1) في هذه المرحلة ، كتبت مقالة سابقا ، نشرتها قبل سنوات في موقع قطيفيات ، تحت عنوان: 'القراءة بطريقة التقاط قطع الحلوى'.