التربية الجنسية .. بين ثقافة العيب والإباحة المطلقة

الشيخ حبيب آل جميع *

المفارقة الكبيرة التي نعيشها اليوم ويعيشها أبناؤنا معنا تظهر في الحالة النفسية المضطربة والتناقض الكبير بين ثقافة تقليدية تتشبث بقيم الحشمة والخجل وتنظر إلى موضوع الجنس والحياة الجنسية بتوجس وريبة باعتباره موضوعاً حساساً لا يجوز الحديث عنه , لأنه يخدش ويقارب منطقة يعتبر الحديث عنها عيباً في العرف الاجتماعي ..

 وبين هذا الكم الهائل والمرعب من الإثارة الجنسية التي تبث في الفضاء عبر الأغاني الراقصة والأفلام الإباحية التي لم تكتف بالإثارة الجنسية أو التربية الجنسية .. بين ثقافة العيب والإباحة المطلقةعرض الممارسة الجنسية مباشرة وبجميع تفاصيلها الحميمة ، بل تنشر وتركز على الممارسات الجنسية الشاذة وتقدم ثقافة منحرفة عن الطبيعية والفطرة ، وتحاول أن ترسخ في ذهن المشاهدين وخصوصا فئة المراهقين والشباب من الجنسين وهم الأكثر تعطشا لمعرفة أسرار هذا الجانب الغامض من الحياة البشرية – مفاهيم مغلوطة عن الحياة الجنسية شكلاً و مضموناً وهدفاً . وهذا ما يجعل التحديات _ خصوصا في المجتمعات المسلمة – تتضاعف أمام جميع الجهات التي لها علاقة بالتربية والتعليم والمحافظة على قيم المجتمع وتقاليده من آباء وأمهات ومربين وعلماء دين ووعّاظ , وكذلك رجال السياسة لأن انتشار ثقافة الشذوذ والإباحية يهدد بانهيار اجتماعي يؤثر في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية .. الخ

 هذا الواقع هو الذي دفع - ولايزال - الكثير من المفكرين والمصلحين والدعاة لدقّ ناقوس الخطر والتحذير من مخاطر هذا الحجم الهائل من الثقافة الجنسية - المصورة بالخصوص - والتي اخترقت جميع الحواجز ودخلت البيوت والمخادع . وتساءل البعض هل سنكتفي بالتحذير والاستنكار والصراخ ، أم لابد من اتخاذ إجراءات عملية فورية لمعالجة هذا الموضوع الإشكالي الخطير ؟

 لقد دعا البعض إلى ضرورة إدخال مادة الثقافة الجنسية في المناهج الدراسية , في المراحل التي يبدأ فيها الشاب والشابة بطرح الأسئلة والاستفسارات حول هذه المواضيع ، وأن يتم انجاز مناهج الإنسان بعيداً عن الإثارة أو الإسفاف , معرفة تجيب عن جميع الأسئلة التي قد لا يحصل عليها المراهق في البيت ومن أفراد الأسرة ما يجعل الشاب أو الشابة يتجهان إلى البحث عن أجوبة لأسئلتهما , أما في كتب تجارية تزيدهما تخبطاً وتشحنهما بالإثارة أو عن طريق التفكير - وبمساعدة رفاق السوء - لخوض تجربة تكشف لهما عن أسرار هذا العلم مباشرة , ولا يشك أحد في خطورة هذا الطريق ؛ لأن عالم البغاء له علاقة مباشرة ليس بالشذوذ أو الفساد الأخلاقي فقط ، وإنما بعوالم المخدرات والإجرام بكل أنواعه وأشكاله ، ولذلك وصف أحد علماء النفس الدعارة بأنها ( مقبرة الرجال ) ؛ لأنها تقدم معلومات وثقافة جنسية خاطئة في الكثير من تفاصيلها , بالإضافة إلى اختلال رؤيته تجاه المرأة والزواج وأهداف الممارسة الجنسية .

 لكن الدعوات إلى إدخال مادة الثقافة الجنسية تعترضها الكثير من الحواجز أهمها الثقافة الدينية المتزمتة والمتحجرة التي يتشبث بها بعض المشرفين على القطاع الديني والدعوي ، وكذلك بعض المفكرين ضيّقي النظرة والذين يبالغون في التركيز على السلبيات المحتملة لهذا الأجراء ، ويغضون الطرف أو يتناسون هذا الكم الهائل من الثقافة الجنسية التي يمكن للشاب أن يحصل عليها دون ضوابط عليمة أو شرعية عبر الأفلام الجنسية والفضائيات الإباحية والانترنيت ، بالإضافة إلى سهولة الإنخراط في التجارب مباشرة ؛ لأن دور الدعارة وأماكنها متوفرة في أكثر من مكان ..

 في المقابل هناك دعوات متّزنة ومعتدلة تحاول معالجة هذا الموضوع بالكثير من الحكمة والموضوعية ، والشعور العميق بخطورته والآثار السلبية المدمرة التي ستنجم - وقد ظهر بعضها - إن لم يعالج الموضوع بما يستحقه من حكمة ورويّة ونظرة شاملة لا تكتفي بالانشغال ببعض المظاهر والأشكال ، وتنسى صلب الموضوع وجوهره وخطورته على المستوى التربوي والاجتماعي .

 في هذا الإطار ظهرت في الآونة الأخيرة عدد من الكتابات التي تجرّأ أصحابها على كسر حواجز الصمت ، واقتحموا هذا الموضوع في محاولة لمعالجته بموضوعية علمية ، تكشف عن وجهة نظر الإسلام حول الثقافة الجنسية ؛ لأن الكثير من المظاهر السلبية في معالجة هذا الموضوع ينسبها البعض إلى الإسلام ، بينما يكشف البحث العلمي الرصين براءة الإسلام وتعاليمه ( قرآناً وسنّة ) من الكثير مما ينسب إليه ، فثقافة العيب والتكتم الشديد على هذا الجانب ، والتهرب من الإجابة عن الأسئلة الجنسية التي يطرحها الأبناء على آبائهم أو أمهاتهم ، وتقصير الآباء في تعريف أبنائهم على عدد من القضايا المهمة والضرورية في هذا المجال ،كل ذلك مردّه إلى التقاليد والعادات الملتزمة والمتوازنة والمتوارثة وليس إلى المبادئ والتشريعات الإسلامية .

 من هذه الكتابات , كتاب ( ثقافتنا الجنسية .. بين فيض الإسلام واستبداد العادات ) للباحث الأستاذ الشيخ حسين بن علي المصطفى , والصادر عن المركز الثقافي العربي في بيروت . فقد أكد فيه الباحث على الحاجة الملحة للثقافة الجنسية ؛ لأن الشباب المراهق اليوم – في نظره- يعاني كثيراً من وطأة الأسئلة الجنسية في الوقت الذي تجابه أسئلتهم بمواقف مثل : عيب , قلة أدب .. مما يجعلهم يشعرون أنهم بصدد فعل خاطئ ، فيلجؤون للتستر والكتمان ، وفي عالم الأسرار والغموض تنشا الأفكار والممارسات الخاطئة ، وتنمو وتتشعب دون رقيب أو حسيب .

 ثم يجد الشاب والفتاة أنفسهما فجأة عند الزواج وقد أصبحا في مواجهة حقيقة مع هذا الأمر ، ويحتاجان إلى ممارسة واقعية وصحيحة ، وهما في الحقيقة لم يتأهّلا له .. وهكذا ندخل - كما يقول الكاتب - في دوّامة .

الزّوج يسأل أصدقاه سراً ، وتظهر هنا الوصفات العجيبة والاقتراحات الغريبة والنصائح المشينة حتى يصل الأمر إلى الاستعانة بالعفاريت والجن !!

 أما الزّوجة فعادة ما تركن إلى الصمت والانتظار والبكاء ، حيث تتفاقم المشاكل لتصل إما إلى الطلاق أو استمرار حياة جنسية وعاطفية مختلة في إحدى جوانبها . في الوقت الذي يكون علاج المشكلة بيسطاً وممكناً بمعرفة علمية يقدمها طبيب مختص أو كتاب علمي غير تجاري .

 لذلك يرى الكاتب أننا بحاجة إلى رؤية علاجية خاصة بنا ، تتناسب مع ثقافتنا حتى لا يقاومها المجتمع ، وأن نبدأ في بناء تجربتنا الخاصة وسط حقول من الأشواك والألغام ، ونواجه هذه الثقافة المستوردة التي ترفض أن تتبع سنّة وأدب رسول الله في تعاليم وإرشاد الناس لما فيه سعادتهم في دائرة الحلال ، وتعرض عن هذا الأدب النبوي في طلب الحلول من أهل العلم دون تردّد أو ورع مصطنع ..

 وهذا يحتاج - في نظر الكاتب - إلى فتح باب للحوار على مختلف الأصعدة ، وبين كل المهتمين ، نبراسنا فيه سنة النبي ، وسياجنا التقوى والجدية والعلم الرصين ، وهدفنا سعادة بيوتنا و الصحة النفسية لأبنائنا ...

لقد ناقش الكاتب مجموعة كبيرة من القضايا الحساسة ، مناقشة علمية وعلى ضوء الكتاب والسنة ، فتحدث عن موقف الإسلام من الجنس ، والعلاقة بين الجنس والحب ، وواجبات الزوجين ليلة الزفاف ، وحقوق الاستمتاع ، ومكانة المرأة الحقوقية في الإسلام ، ورأي الإسلام في تغيير الجنس . وغيرها من المواضيع الخاصة بعلاقة الرجل بالمرأة الحميمة والخاصة ، مؤكّداً من خلال مناقشاته الفقهية والشرعية لهذه القضايا مجموعة من الحقائق ، فالإسلام لا ينتقص من أهمية الممارسة الجنسية ، بل هي جزء من طبيعة الإنسان ، لها أهدافها التي تنسجم مع أهداف الخلق والاستخلاف ، وعندما قيدها بقيود شرعية كان يهدف لإضفاء معانٍ سامية عليها ، كي يبعدها عن أي انحراف أو انحطاط أو بهيمية تفرغها من جوهرها وهدفها ، كما أن من حق المسلم شابّاً كان أو رجلاً أو شيخاً ذكراً أو أنثى ، أن يسأل ويثقف في هذا الموضوع دون حرج أو خوف أو وجل ..

 ففي صدر الإسلام كان الصحابة ومن بينهم النساء ، يسألون النبي عن كل ما يعرض لهم من قضايا تتعلق بالجنس ، أو علاقة الرجل بالمرأة ، سواء مباشرة أو عبر وسيط أو سائل ، فكان الرسول لا يتحرّج أبداً في الجواب ، وتوضيح ما يجب توضيحه ، والأحاديث والروايات عنه وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام تؤكد ذلك ، فهناك كم هائل من الأحاديث في تفاصيل دقيقة وأجوبة عن عدد كبير من الأسئلة المتعلقة بالجنس والممارسة الجنسية .

 لذلك علينا أن نتحرر من ثقافة العيب المفرط ، ومن التقاليد البالية والمتحجرة ، التي تدعو إلى التكتّم والصمت وعدم سؤال أهل العلم والاختصاص ، وحبّذا ونحن اليوم في عصر المعلومات وانتشار الكتاب على نطاق واسع ؛ أن ينتخب الآباء والأمهات عدداً من الكتب التي تعالج موضوع الجنس بعليمة وموضوعية ، بعيداً عن الإثارة الرخيصة ، حبّذا لو يشتري الآباء نسخاً منها ويضعونها في مكتبة المنزل ، لتكون في متناول أبنائهم المراهقين ، أو ليقدموها لهم هدية ، مع إبداء الاستعداد لمناقشة أي شي يصعب فهمه ، الشاب مع أبيه والأم مع ابنتها ، وليكن ذلك في جو من الحياء والحشمة التي لا تمنع من قول الحق والإرشاد والنصيحة ، فخير للشباب ولأسرهم وللمجتمع ككل أن يحصلوا على أجوبة لأسئلتهم الجنسية من داخل الأسرة ، أو من المدرسة أو من الجهات العلمية المتخصّصة ، بدل الحصول عليها من الأفلام الجنسية والإباحية ، أو ينخرطوا في تجارب واقعية قد ترمي بهم بعيداً في غياهب الجريمة ، أو توقعهم في أمراض معدية خطيرة أو مميتة .

 

هذه قراءة في كتاب : ثقافتنا الجنسية بين فيض الإسلام واستبداد العادات . للكاتب :حسين بن على المصطفى , والناشر : المركز الثقافي العربي – بيروت سنة النشر : ط الثانية 2007م الصفحات 256صفحة من القطع المتوسط .
باحث ومهتم بالتراث الاسلامي