التقية الشيعية : غطاء تخاذل أم تحرف لجهاد

الأستاذ وسيم الرجال *
  • تمهيد :

تسمى كذبا و نفاقاً و خداعاً ،  يعير فاعلوها و يوصمون بالجبن و التضليل و الدجل.  يطلب من الناس عدم تصديق أصحاب هذا المبدأ لأنهم يكذبون ولا يمكن الوثوق بتصريحاتهم و أقولهم.  فدينهم يجيز لهم اليمين كذباً في حال التقية.  سيل من الاتهامات و التشنيع لا يهدأ يقذفه من ألجأ أصحاب التقية إلى التقية بجوره و ظلمه و حديده وناره ،  دينه يجيز له التسلط على الناس بالقوة و القهر و يسوغ له كل الجرائم من أجل الحكم و السلطان ،  ثم يعيب على غيره الورع من ذلك كله و اللجوء إلى كتمان عقيدته خوفاً من أنيابه وشهوة الدم لديه.

 بالله عليكم أيها الوالغون في دماء المؤمنين المتسلطين بالقهر عليهم  ،  جربوا حياة الخوف ولو برهة من الزمن.  و لأن ذلك غير ممكن تخيلوا لو أنكم بحتم بعقيدتكم في بني أمية و ترضيتم عن صحابتهم و ترحمتم على ملوكهم لجاءكم من الحاكم حر الحديد أو لفصلتم من وظائفكم و قطعت أرزاقكم و جرجرتم إلى المحاكم ،  أكنتم تجهرون بذلك؟ بالطبع سيجهر البعض ممن ذاب هياماً في بني أمية و أمجادهم ولكن سيلجأ قسم آخر إلى المداراة و التقية و ما تطلقون عليه الكذب و النفاق و التضليل و الخداع. 

  تصوروا لو كان مجرد التشكيك في إيمان أبي طالب (رحمه الله ) أو الطعن في علماء الإمامية و رموزهم ورواتهم كحمران بن أعين وزرارة و هشام بن الحكم و أصحاب الأئمة سبباً كافياً لإخراجكم من ملة المسلمين فيسوغ بعد ذلك قطع الأرزاق  أو ضرب الأعناق ،  أكنتم تجرءون على التشكيك فيه و الطعن فيهم علانية؟ 

دينهم يجيز التقية مع الكفار ،  ويفعلون مع مخالفيهم في المذهب ما تهون به عظائم الكفار أمام عظائمهم.  ثم يتعجبون و يستنكرون و يعيبون و يعيرون من يتقي شرهم و جورهم و نارهم و أذاهم!!  أي فرق بين جور الكافر و جور المسلم؟  أي ميزة لظلم المسلم على ظلم غيره؟  إن المبدأ واحد و لا يمكن استمراء الظلم وقبوله لصدوره من المسلمين.

  •  تقية التخاذل و الخيانة :

بالتأكيد إن التقية لا تعني العمالة للاستعمار و الاحتلال ولا يجوز أن يتخذها البعض ذريعة لتخدير الناس و ترويضهم على استساغة الباطل و السكوت عنه.  إن التقية شرعت لحفظ الدين و الإبقاء على النفس و ليس للحصول على المناصب.  إن التقية لا تعني سلب الكرامة و التخلي عن الشرف و العزة. و ليس من التقية المشروعة الترويج لمشاريع أعداء الأمة بالعناوين الجميلة كالديمقراطية و الإعمار و نشر العلم.  و ليس من التقية استقبال القتلة و المجرمين من المحتلين بالأحضان.  إن إعانة المستعمر الكافرعلى قتل المؤمنين و تمكينه من بلاد المسلمين ولو بشطر كلمة يعد خيانة مهما بررها أصحابها بالتقية و المدارة و ضرورة المناورة السياسية. فكيف بتسيير الكتائب وبذل المال و تقديم الجنود المسلمين فداءاً لخدمة وحماية جيش المحتلين و جنود الشركات الأمنية المرتزقة؟

 
من الذي  يروج لهذا الفهم في التعاطي مع التقية؟  من الذي حرف التقية و جعلها معطلاً للجهاد و النهضة و الصدوع بالحق؟   من هو المستفيد من التقية بهذا المفهوم ؟  إن المحتل الكافر لا يكترث بالشعائر الدينية إلا بمقدار ما تحدثه من وعي في الضمائر و بحجم الضرر الذي قد تلحقه هذه الشعائر و العبادات و الطقوس بمشاريعها الاستعمارية.    إن شعائر عاشوراء (المشروعة) إذا مورست بطريقة تخديرية و أصبحت خالية من روح الثورة الحسينية ضد الباطل بجميع صوره  ،  و تحولت إلى أفعال و حركات و أصوات فارغة من المضمون الديني الذي أراده من نبكي عليه و لأجله ،  حينها لن تتعرض هذه الشعائر إلى المنع و الاعتراض.   إن الصلاة و الصيام و الخمس و الحج و قراءة القرآن و غيرها من العبادات تتعرض لخطر المنع و المواجهة إذا تحولت إلى أسلحة ضد المستعمرين.  فصلاة الجمعة إذا كانت منبراً يشد من أزر الممانعين للوجود الأمريكي في العراق فهي عبادة ممنوعة ،  و ينبغي أن تتحول إلى صلاة بين العبد وخالقه يطلب فيها من الله السلامة من شرور الدنيا و الزهد في متعها و حسب.   و لا مانع من الخمس إذا كان يجمد في المصارف و البنوك أو يصرف على بعض طلبة الحوزة المؤيدين لوجود الاحتلال الأمريكي ،  و يتعرض الخمس لأشرس هجوم إذا كان وسيلة لنشر الفكر الصحيح و تمويل الجبهة المقاومة ولو بالمقاومة السلمية كالمظاهرات و الاعتصامات و الترويج الإعلامي.

  • التقيـــة في كتب الفقه:

 و من المناسب أن نستمع إلى أقوال بعض العلماء في ما يتعلق بالموضوع :

- (سكوت العلماء)


1- الفقه (كتاب المسائل المتجددة) – السيد محمد الشيرازي ،   ص 320

المسألة (773): إذا وقعت بدعة في بلاد الإسلام وجب على العلماء الإنكار و إظهار أنها بدعة ،  و إن علموا أن إظهار كونها بدعة لا يوجب دفعاً و لا رفعاً.

 المسألة (774): إذا كان سكوت علماء الدين على الظلمة و مرتكبي المنكرات موجباً لوهن الدين و ضعف عقيدة المسلمين بالإسلام – حيث أن الناس يرون العالم رمزاً للإسلام فإذا سكت نسبوا الدين إلى أنه يداهن الظالم و إن الإسلام لا يحل مشكلة الناس ولا يرفع الظلم عنهم – وجب على العالم التكلم و إن علم بعدم فائدة الكلام في دفع المنكر أو رفعه أو تقليله.

 المسألة (777): كما يجب على المسلمين أن يدفعوا الكفار إذا أرادوا الاستيلاء عليهم استيلاء عسكريا كذلك يجب عليهم الدفاع إذا أراد الكفار الاستيلاء عليهم استيلاء سياسيا أو اقتصادياً أو ما أشبه.

 المسألة (785): لو صارت مؤسسة أو شركة أو جمعية أو ما أشبه منفذا للكفار إلى بلاد الإسلام وجب غلقها أو تنظيفها عن الخطر.

 المسألة (786): إذا لم يمكن الإقصاء و الغلق بالنسبة إلى ما ذكر في المسألة السابقة يجب على المسلمين مقاطعة ذلك الشخص أو تلك المؤسسة.

 2-  تحرير الوسيلة – السيد الخميني ،  ج 1   ص 473 :

مسألة 7 -  لو وقعت بدعة في الإسلام وكان سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب أعلى الله كلمتهم موجبا لهتك الإسلام وضعف عقائد المسلمين يجب عليهم الإنكار بأية وسيلة ممكنة سواء كان الإنكار مؤثرا في قلع الفساد أم لا ، وكذا لو كان سكوتهم عن إنكار المنكرات موجبا لذلك ، ولا يلاحظ الضرر والحرج بل تلاحظ الأهمية .

 مسألة 8 -  لو كان في سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب أعلى الله كلمتهم خوف أن يصير المنكر معروفا أو المعروف منكرا يجب عليهم إظهار علمهم ، ولا يجوز السكوت ولو علموا عدم تأثير إنكارهم في ترك الفاعل ، ولا يلاحظ الضرر والحرج مع كون الحكم مما يهتم به الشارع الأقدس جدا .

 مسألة 9 -  لو كان في سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب أعلى الله كلمتهم تقوية للظالم وتأييد له والعياذ بالله يحرم عليهم السكوت ، ويجب عليهم الإظهار ولو لم يكن مؤثرا في رفع ظلمه .

 مسألة 10 -  لو كان سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب أعلى الله كلمتهم موجبا لجرأة الظلمة على ارتكاب سائر المحرمات وإبداع البدع يحرم عليهم السكوت ، ويجب عليهم الإنكار وان لم يكن مؤثرا في رفع الحرام الذي يرتكب .

 مسألة 11 -  لو كان سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب أعلى الله كلمتهم موجبا لإساءة الظن بهم وهتكهم وانتسابهم إلى ما لا يصح ولا يجوز الانتساب إليهم ككونهم نعوذ بالله أعوان الظلمة يجب عليهم الانكسار لدفع العار عن ساحتهم ولو لم يكن مؤثرا في رفع الظلم .

 3- الأحكام الشرعية – الشيخ حسين علي المنتظري ،   ص 368 :

مسألة 2151 : إذا وقعت بدعة في دين الإسلام ، مثل المنكرات التي تنفذها الحكومات الظالمة باسم الإسلام المبين ، يجب إظهار الحق وإنكار الباطل ، خصوصا على علماء الإسلام . وإذا كان سكوت العلماء الأعلام موجبا لهتك حرمة مقام العلم وموجبا لإساءة الظن بعلماء الإسلام ، فيجب إظهار الحق بأي نحو ممكن ، وإن علموا أنه لا يؤثر .

 مسألة 2152 : إذا احتمل احتمالا صحيحا أن السكوت يؤدي لان يصبح المنكر معروفا أو المعروف منكرا ، يجب إظهار الحق وإعلانه ، خصوصا على العلماء الأعلام ، ولا يجوز السكوت .

 مسألة 2153 : إذا أوجب سكوت العلماء الأعلام تقوية الظالم ، أو أوجب تأييده ، أو أوجب جرأته على سائر المحرمات ، يجب إظهار الحق وإنكار الباطل وإن لم يكن لذلك تأثير فعلا .

 مسألة 2154 : إذا سبب سكوت العلماء الأعلام سوء ظن الناس بهم واتهامهم بمداهنة الأنظمة الظالمة ، يجب إظهار الحق وإنكار الباطل وإن علموا انه لا يمنع محرما ، وأن إعلانهم لا أثر له في رفع الظلم .

 مسألة 2155 : إذا كان دخول بعض العلماء الأعلام في أنظمة الظلمة موجبا للمنع من مفاسد ومنكرات ، فيجب عليهم التصدي لذلك ، إلا أن تكون فيه مفسدة أهم ، كأن يكون تصديهم سببا لتضعيف عقائد الناس أو سلب ثقتهم بالعلماء ، ففي هذه الحالة لا يجوز .

 4-  منهاج الصالحين – السيد محمد صادق الروحاني ،  ج 1   ص 379 :

( مسألة 1272 ) : لا يختص وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصنف من الناس دون صنف ، بل يجب عند اجتماع الشرائط المذكورة على العلماء وغيرهم ( ولكن ربما يكون سكوت العلماء خاصة موجبا لترتب احد المفاسد المتقدمة فانه يجب عليهم خاصة ) ، والعدول والفساق ، والسلطان والرعية ، والأغنياء والفقراء ، وقد تقدم أنه إن قام به واحد سقط الوجوب عن غيره وإن لم يقم به أحد أثم الجميع ، واستحقوا العقاب .

-  (التقية)

1-  فقه الصادق – السيد محمد صادق الروحاني ،  ج 11   ص 423 :

وبهذا صرح جولادستون رئيس وزراء بريطانيا في وقته ، فقد صرح في مجلس العموم البريطاني قائلا :

 أن لا نفوذ لبريطانيا في الشرق الإسلامي والقرآن عندهم يعملون به ويهتدون بهداه ! فأخذوا يسعون بمحو ما علق في نفوس المسلمين من التعلق بالقرآن ، والعمل بأحكامه والسير على هداه ، وحاولوا إزالة القرآن من بينهم ليخلو لهم الجو ويفعلوا ما يشاءوا .

  ولما رأوا أن هذا الأمر لا يمكن ما دام العلماء هم القوة المجرية لقوانين القرآن ، والناس تابعون لهم ، وهم الآمرون والناهون أخذوا يسعون في تضعيف العلماء والروحانيين بشتى الطرق والوسائل ، ومن جملتها نصب رجال هم أعداء للدين والعلماء مصادر للأمر ، وناصروهم جهد طاقتهم ، فكانوا هؤلاء الرجال عند حسن ظنهم ، حتى آل أمر المجتمع إلى ما نرى بالعيان من تسلط الكفار والأجانب على البلدان الإسلامية ، وضعف الإسلام في نفوس المسلمين ووو . . . فانا لله وإنا إليه راجعون .

 2-  فقه الصادق – السيد محمد صادق الروحاني ،  ج 11   ص 411 :

ويستنتج مما ذكرناه في هذين القسمين أحكام نشير إلى طرف منها :

 4 - الأفضل ترك التقية فيما إذا كان الشخص قدوة للأنام ، أو كانت تقيته موجبة للوهن في الدين ، وكان الضرر هو هلاك نفسه .

 5 - تحرم التقية في موارد :

 الأول : في الدماء ، فانه لا تقية فيها ، فكل ما يستلزم إباحة دم من لا يجوز قتله لا تجوز التقية فيه .

 الثاني : ما لو أدت التقية إلى الفساد في الدين ، أو ذلة المؤمنين .

 الثالث : إذا كان ما يتقي به من قبيل هدم الحق بمحو نسخ القرآن وتفسيره بما ينطبق على المذهب الباطل ، وتخريب الكعبة المعظمة وقبور المعصومين عليهم السلام ، وما شاكل .

 الرابع : ما إذا كان الشخص قدوة للأنام ورئيسا في الدين في قومه ، بحيث يلزم من تقيته وهن الدين ورواج الباطل ، كشرب مرجع المسلمين المسكر ، ودنو العالم وأتباعه من الحاكم الجائر .

 الخامس : ما لو كان العمل المحرم مما يرجع ضرره إلى المجتمع الإسلامي

 السادس : ما إذا كانت التقية بحيث تجلب إلى المؤمن ذلة وحقارة وحطة عن شرافته ومقامه إذا عمل بالتقية .

السابع : ما إذا ظهرت البدعة في الدين ، فانه يجب على العالم أن يظهر علمه بلغ ما بلغ . وهناك موارد أخر تحرم فيها التقية تظهر مما بيناه.

 

  •   التقية إسلامية فطرية :

يرتبط موضوع التقية بالمذهب الشيعي و يتسم بالصبغة العقائدية و يدور جدل في الأوساط الدينية حول الحاجة إلى نبذ التقية أو التمسك بها.  وليست التقية اختراعاً شيعياً أو مبدأ دينياً شرعته روايات الأئمة في عهد الدولتين الجائرتين فحسب ،  بل هي سبيل يلجأ إليه جميع الناس بدافع فطري أحياناً و بقرار واع مبني على أسس عقلية أحياناً أخرى.  

 و مع وجود ما يسندها من الفطرة و العقل فإن الشرع أباحها و سوغ اللجوء إليها في موارد الضرورة كالخوف والاضطرار لحفظ النفس و العرض و المال.  و تختلف موارد التقية في بلاد الكفر عن بلاد الإسلام ففي الرواية عن الإمام الصادق [ استعمال التقية في دار التقية واجب]  فلا تقية في ترك الصلاة في بلاد المسلمين لأنها من أعمالهم و أحكام دينهم الظاهرة  ،  نعم التقية قد ترد في كيفية الصلاة و كيفية الوضوء و بعض الأحكام. و في بلاد المسلمين قد يضطر البعض إلى إخفاء هويتهم المذهبية.  وربما اضطر أتباع المذهب الواحد إلى إخفاء هويتهم الفكرية و الثقافية و السياسية خوفا من سياط التسقيط تارة و خوفاً من السجن و التعذيب و مصادرة الحقوق تارة أخرى. 

 و قد تكون التقية إعلانية ( إظهار خلاف العقيدة الحقة )

أو تكون كتمانية ( كتمان العقيدة الحقة )

  إن حاجة المسلمين إلى التقية بدأت منذ الأيام الأولى للصراع بين الشرك و الإيمان  ،  و ما فعله الصحابي الجليل عمار بن ياسر من النطق بكلمة الكفر كان تقية من أذى المشركين ،  و بعد رحيل النبي الأكرم امتنع أغلب الناس من رواية الحديث عنه تقية من الخلفاء الذين منعوا الرواية و تدوين السنة ،  ثم جاء عهد معاوية الذي تتبع شيعة أمير المؤمنين و أمعن في استئصالهم و كان ذكر علي و مناقبه بل عدم لعنه سبباً وجيها عند معاوية و من تبعه من الأمويين لإزهاق الأرواح و هدم الدور و سلب الأموال ،  و في عهد الدولة العباسية و العثمانية بل حتى بعد تمزق العالم الإسلامي إلى دول متناثرة استمر الوضع على ما هو عليه بوتائر متفاوتة ترتفع و تنخفض أو تزول تبعا للقوة النسبية التي تمتعت بها دول و إمارات شيعية ضمن جسد الدولة الإسلامية كالبويهية والحمدانية أو منفصلة عنها كالصفوية و القاجارية و أخيراً الجمهورية الإسلامية في إيران.

 

  •  التقية أحياناً أم التقية دائماً ؟

 و السؤال المحوري : 

هل التقية إستراتيجية ( منهج دائم )؟

أم التقية تكتيك ( أسلوب مرحلي) ؟

  أقول قد يكون الجواب في حديث أبي الحسن الرضا صلوات الله عليه معاتبا لبعض أصحابه: ( إنكم تتقون حيث لا تجب التقية ، وتتركون التقية حيث لا بد من التقية ) [الاحتجاج  ،  الطبرسي]

  فالتقية استثناء في حياة الناس و ليست أصلاً و في كتاب الله تعالى ما يشير إلى ذلك:

 1- ﴿مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ (106) سورة النحل

2- ﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ (28) سورة آل عمران

 فالاستثناء  ﴿ إلا من أكره  و ﴿ إلا أن تتقوا يعني أن التقية ليست أصلاً و لا حالة دائمة.

 

  •  متى تحرم التقية ؟

 بل هناك موارد تحرم فيها التقية :

1- هدم الدين:

عن الإمام الصادق [ فكل شيء يعمل المؤمن بينهم – قوم السوء – لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فهو جائز]  الكافي

 2- الدماء:

 عن الإمام الصادق [ إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم ،  فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية] وسائل الشيعة

 3- شرب الخمر:

سئل الإمام الصادق [ في مسح الخفين تقية؟   فقال : ثلاثة لا أتقي فيهن أحداً ،  شرب المسكر و مسح الخفين و متعة الحج]

 4- غير موارد الضرورة:

عن الإمام الباقر [ التقية في كل ضرورة و صاحبها أعلم بها حين تنزل به] الكافي.

  

  • البراءة من أمير المؤمنين بين الكافي و نهج البلاغة :

أ- أما ما ورد في نهج البلاغة  ،  الخطبة 57 ، 

[ ألا و إنه سيأمركم بسبي و البراءة مني  ،  فأما السب فسبوني و أما البراءة فلا تتبرؤوا مني فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان و الهجرة]

و كذلك الرواية عن أمير المؤمنين الواردة في وسائل الشيعة و رجال ابن داوود الحلي

[ كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دعي بني أمية عبيد الله بن زياد إلى البراءة مني؟

 فقلت: أنا و الله لا أبرأ منك.  

قال : إذا و الله يقتلك و يصلبك.

قلت: أصبر فذاك في الله قليل.

قال : يا ميثم إذا تكون معي في درجتي. ]

 ب- فهما تتعارضان مع ما ورد في الكافي ج2 ،  ص219

قيل لأبي عبد الله إن الناس يروون أن علياً قال على منبر الكوفة ،  أيها الناس: إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة مني فلا تبرؤوا مني.

فقال الإمام الصادق: ما أكثر ما يكذب الناس على علي.    ثم قال:  إنما قال إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثم ستدعون إلى البراءة مني و إني لعلى دين محمد ،  و لم يقل لا تبرؤوا مني]

• فهل نقبل رواية نهج البلاغة لأن البراءة من أمير المؤمنين هي هدم للدين و إفساد لأساسه وهذا من الموارد التي لا تجوز فيها التقية ،  أم نقبل رواية الكافي لأن السب و البراءة إنما هما كلام ينطقه المؤمن بلسانه مكرها و لا يقره القلب تماماً كما فعل عمار بن ياسر (رضي الله عنه) عندما أكرهه أهل مكة على التفوه بكلمة الكفر؟

 • هل البراءة تختلف عن السب في كونها من أفعال القلب و ليست صفة قولية كما يذكر ذلك ابن ميثم البحراني في شرحه لنهج البلاغة؟

 •  أو منع التبرؤ لأن البراءة لفظة لم ترد في القرآن إلا عن المشركين  ﴿ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (3) سورة التوبة.  كما يرى ابن أبي الحديد؟

 • هل تختلف البراءة من أمير المؤمنين عن الشهادة لمسيلمة الكذاب بالنبوة ؟ 

  

  • شواهد تاريخية  :

 1- أصحاب الكهف :

عن الإمام الصادق [ إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان و أظهروا الكفر وكانوا على إظهار الكفر أجرأ منهم على إسرار الإيمان] وسائل الشيعة

 وعنه أيضاً [ ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف  ،  إن كانوا ليشهدون أعيادهم و يشدون الزنانير فأعطاهم الله أجرهم مرتين] 

 2- نبي الله إبراهيم و نبي الله يوسف:

عن الإمام الصادق [ لقد قال يوسف ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ و الله ما كانوا سرقوا شيئاً  ،  ولقد قال إبراهيم ﴿ إني سقيم والله ما كان سقيماً.

 3- عمار بن ياسر:

أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي و ذكر آلهتهم بخير ثم تركوه. فلما أتى رسول الله قال: ما وراءك؟

قال: شر يا رسول الله ،  ما تركت حتى نلت منك و ذكرت آلهتهم بسوء.

قال : كيف تجد قلبك؟

قال: مطمئن بالإيمان.

قال : إن عادوا فعد.

4- رجلان من الكوفة :

قلت لأبي جعفر رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما:  ابرءا من أمير المؤمنين ،  فبرئ واحد منهما و أبى الآخر ،  فخلي سبيل الذي برئ وقتل الآخر؟   فقال: أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه ،  و أما الذي لم يبرأ فرجل تعجل إلى الجنة.

 5- الرجلان و مسيلمة الكذاب :

القصة المروية في كتب التفسير أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله فقال   لأحدهما أتشهد أن محمداً رسول الله؟ 

قال: نعم.

قال: أفتشهد أني رسول الله؟

قال: نعم.

ثم دعا بالآخر فقال : أتشهد أن محمداً رسول الله؟

قال: نعم.

فقال له: أفتشهد أني رسول الله؟

قال: إني أصم.   قالها ثلاثاً.  فضرب عنقه. 

 ولما بلغ النبي محمداً خبرهما قال:[ أما هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه و أخذ بفضله فهنيئاً له ،  و أما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه] 

 6- الكميت بن زيد:

كنت عند أبي الحسن موسى و عنده الكميت بن زيد فقال للكميت : أنت الذي تقول :

فالآن صرت إلى أمية   و الأمور إلى مصائر ؟

قال الكميت : قلت ذاك و الله ما رجعت عن إيماني و إني لموال لكم و لعدوكم لقال- مبغض- ،  ولكني قلته على التقية.

قال: أما لئن قلت ذلك .... إن التقية تجوز في شرب الخمر!!؟

أي أن الإمام أنكر عليه لأن التقية لا تصل إلى هذا الحد من مدح بني أمية.

 7- أبو طالب ( رحمه الله)  و أبو سفيان :

في قصة إسلام أبي سفيان أن النبي رآه و قال له:  ويحك يا أبا سفيان!  ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟

قال: بأبي أنت ما أحلمك و أكرمك و أعظم عفوك!  قد كان يقع في نفسي أن لو كان مع الله إله آخر لأغنى.

قال : يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟

قال: أما هذه فو الله إن في النفس منها لشيئاً بعد.

قال العباس:  فقلت ويحك!  تشهد وقل لا إله إلا الله محمد رسول الله قبل أن تقتل.

فتشهد.

 إن هذا النوع من التقية هو النفاق الذي يظهر فيه المنافق الإيمان و يضمر الكفر.

 

أما تقية أبي طالب من مشركي قريش فكانت لحماية النبي و الذب عنه ولو أظهر إيمانه لم يسعه الدفاع عنه بدافع العصبية للنسب و العشيرة و أصبح في جماعة المسلمين المحاربين كأي فرد لا شأن له.

 و في الرواية عن الإمام العسكري [ إن أبا طالب كمؤمن آل فرعون يكتم إيمانه ] وسائل الشيعة

وعن الإمام الصادق : [ إن أبا طالب أسر الإيمان و أظهر الشرك فآتاه الله أجره مرتين] وسائل الشيعة.

 7- نصير الدين الطوسي :

و هو عالم فلكي و مفكر وفيلسوف و متكلم ينتسب إلى مذهب الشيعة الإمامية ،  عاش قرابة ربع قرن في قلاع الإسماعيليين عند الوزير ناصر الدين ثم بقي مع ركن الدين في قلعة آلموت حتى هجوم المغول بقيادة هولاكو فخرج نصير الدين الطوسي و حضر بين يدي السلطان الجديد هولاكو فحظي عنده و أنعمه. 

 فهل كان هولاكو محبا للعلم و أهله ؟

أم أنه كان في حاجة لعلم الطوسي و خاصة الفلك و النجوم؟ 

أم أنها علاقة عمالة مشبوهة سبقتها مراسلات مبكرة قبل الهجوم على الإسماعيليين؟ 

 إن انتماء الشيخ الطوسي إلى الشيعة الإمامية جعل تهمة العمالة و خيانة الأمة الإسلامية جاهزة و ثابتة عليه دون أدنى تشكيك أو نقاش ،  فالطوسي متآمر يخذل المسلمين في حربهم مع المغول و هو الذي أشار على هولاكو بقتل المستعصم بالله.   بل اتهم بأنه يعبد الأصنام و قد شفى نفسه من المسلمين فقتل الخليفة و القضاة و الفقهاء و المحدثين. 

 ولا يصح في رد هذه التهم القول بأن حسن الظن بعلمائنا يقتضي حمل ما فعله على التقية  ،  بل لا بد من دراسة تاريخية عميقة تكشف أوضاع الدولة العباسية وما آلت إليه من تضعضع و انهيار سهل للمغول مهمتهم وما كان نصير الدين الطوسي إلا جزءاً من هذه الأمة المنكوبة أنقذه علمه البارع في الفلك والنجوم ولو رفض الالتحاق بهولاكو لكان مصيره القتل حتماً ففضل الإبقاء على نفسه تداركاً لما يمكن إنقاذه من الأرواح و الكتب و العلوم.  
 

  • ويكفي أن نسوق رأيين لباحثين مختلفي المذهب:

•  يرى السيد حسن الأمين أن انضمام الطوسي لحاشية هولاكو شكلت أزمة نفسية من أوجع ما يصاب به الرجال لأنه وجد نفسه فجأة في قبضة عدو المسلمين ويرى هذا العدو مصراً على أن يبقيه بجانبه و يسيره في ركابه الذي يتجه لغزو الإسلام و القضاء عليه ،  فهل من محنة تعدل هذه المحنة؟ 

•  ويرى الدكتور سعد بن حذيفة الغامدي أنه لا يمكن أن يأتي هولاكو من قلب منغوليا و يتكبد مشاق السفر و يستقدم المهندسين الصينيين و ينقل العربات و المنجنيقات ثم يتردد في غزو العباسيين.  و يرفض مقولة  أن الذي حسن له ذلك و شجعه هو الطوسي بقوله أنه لن تحصل كوارث و تنبأ أنه سيحكم في مكان الخليفة المستعصم.  و يرى أن الدولة العباسية كانت متداعية و قد اكتشف المغول ذلك وهم ليسوا بحاجة إلى مساعدة من أي فرد شيعياً كان أم سنياً.  ولم يكن هولاكو ينتظر نبوءة المسلمين الشيعة.  ولكنه يرى أنه من الخطأ القول بأن سقوط بغداد قام به المغول فقط  ،  إذ لولا تعاون و مشاركة المسلمين في الإطاحة بحكومة العباسيين  لكان من الصعب أن يحقق المغول ما حققوه ،  و من الذين يتصدرون قائمة المسلمين المتعاونين و المشاركة في حملة المغول نصير الدين الطوسي و المؤرخ علاء الدين الجويني و المنجم حسام الدين.

 • و هناك من يرى أن الطوسي لم يقترح على هولاكو قتل الخليفة لكنه سكت عن الحادث و لم يدافع عن انهيار عرش المسلمين بل أرخ لفتح بغداد من وجهة نظر المغول وذلك في (رسالة فتح بغداد)

 8- مؤمن آل فرعون :

و هو حبيب و قيل اسمه حزقيل الذي تحدثت عنه الآية الكريمة﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ (28) سورة غافر ،  و لم من آل فرعون مؤمن غيره و غير امرأة فرعون و غير المؤمن الذي أنذر موسى فقال إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ،  و قيل أنه كان ابن عم فرعون و هو الذي جاء من أقصى المدينة يسعى. و قيل أنه كان نجاراً وهو الذي نجر التابوت لأم موسى.  و تنقل عنه قصة و هي أن فرعون أرسل في طلبه رجلين فوجداه يصلي ،  ولما دخلا على فرعون كتم الخبر أحدهما و أظهره الآخر على رؤوس الناس ،  فلما دخل حزبيل قال فرعون للرجلين: من ربكما؟  قالا: أنت.   فقال لحزبيل: و من ربك؟   قال حزبيل:  ربي ربهما.  فظن فرعون أنه يعنيه وسر بذلك ولم يفطن إلى قصد المؤمن أن الله رب الجميع فهو ربهما.

 8- علي بن يقطين :

نشأ بالكوفة في عهد الدولة العباسية  ،  و عينه هارون وزيراً له  ،  فاستأذن الإمام الكاظم في ذلك فأمره بالبقاء في منصبه ليكون عزاً للمؤمنين و ليقضي حوائجهم.  وكان الإمام يحبه كثيراً ويسدده عندما يحاول الوشاة كشف أمره.  فقد أمره بالاحتفاظ بالدراعة التي أهداها إليه هارون الرشيد ليدحض خبر الواشي الذي أخبر هارون أن علي بن يقطين يقول بإمامة الكاظم و ينقل إليه الزكاة و قد أهدى إليه الدراعة.  و أمره بأن يتوضأ على طريقة أهل السنة لأن الرشيد يتجسس عليه بدفع من الوشاة أيضاً.

 9- صفوان بن مهران ( الجمّال) :

أنكر عليه الإمام الكاظم تأجيره الجمال لهارون الرشيد لأن ذلك يستدعي أن يحب بقاءهم ليستمر الرزق على أيديهم ،  ولما بلغ هارون أن صفوان باع جماله و ترك المهنة طلبه ليستجوبه  ،  فتعذر صفوان بأنه شيخ كبير و أن غلمانه لا يفون بالأعمال!  فقال له الرشيد: إني أعلم من أشار عليك بهذا و لولا حسن صحبتك لقتلتك.

10- تقية الشهيدين الصدرين :

إن موقف الإمام الكاظم من علي بن يقطين و صفوان بن مهران يدل على أن استعمال التقية رهن لحال الأشخاص و موقعهم و زمانهم.  فليست التقية حكماً عاما كوجوب الصلاة عيناً على كل فرد أو حرمة الميتة على جميع المؤمنين.  فقد تجب على مؤمن و تحرم على آخر بحسب الموقع و الحال.  إن نبذ الصدر الأول الشهيد السيد محمد باقر الصدر(رحمه الله) للتقية بتحريمه الانتماء إلى حزب البعث و بإجابته الشجاعة لبرقية الإمام الخميني (رحمه الله) و غيرها من المواقف الإسلامية الوطنية الشريفة كلفه حياته و خسرته الأمة في وقت كانت في أمس الحاجة إلى نهضته العلمية و فكره الإصلاحي ،  و لكنه باستشهاده أحدث فتحاً في قلوب الناس و عقولهم وضمائرهم.

 أما الصدر الثاني الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر(رحمه الله) فقد عاش كغيره من طلبة الحوزة في تقية مكثفة طيلة الفترة التي أعقبت شهادة الصدر الأول ،  إلى أن برز نجمه و ارتدى الكفن و زاول نشاطاً إصلاحياً هائلاً بعد الانتفاضة الشعبانية عام 1991 حيث أحيى صلاة الجمعة و أسس المحاكم الشرعية و طرح باب فقه العشائر و نظم هيكلية الوكلاء إلى أن ظفر بالشهادة عام 1999.  وما هذا التيار الصدري المقاوم وقائده الشاب إلا ثمرة مباركة من ثمار جهوده و مشروعه التغييري الكبير.

 

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
ممدوح
[ أم الحمام - أم الحمام ]: 26 / 7 / 2008م - 9:45 م
أستاذي الفاضل لقد أثبت فعلاً أنك تتطور أكثر وأكثر في كتاباتك وهذا إن دلّ على شيء فذلك لأنك تقرأ كثيراُ ، فأرجو منك السير بهذه الخطى الثابتة وإلى الأمام ، عندي ملاحظة صغيرة فقط وهو عند ذكرك لأبي أي طالب فاكتب سلام الله عليه سلام الله عليه أفضل من رحمه ، وسامحني على عدم الفهم والتقصير............... إلى الأمام دائما