حمقى

لقمان عبدالله

 
    اعتاد أبو داؤود ذو الخمسة و السبعين خريفا الجلوس على رصيف الشارع بشكل دائم ، مصغياً لصوت السيارات العابرة و محدقا لكل شاردة و واردة تحدث خارج هذا البناء الشامخ ، لربما لا هدف لهذه المراقبة سوى قضاء الوقت بنظرات تملؤها دموع الخيبة والحسرة .

    جلس بجانبه ولد سمين تعلو وجهه الجسارة ، لا يحدوا عمره الثمان سنوات ، بان من محياه براءة الأطفال التي لم يعتد عليها وحوش الحياة ، لمح الطفل البؤس على وجه الشيخ فبادر بالحديث : ما بك يا عم ؟ .

    نظر أبو داؤود للطفل و رفع رأسه للسماء و قد سمح لذكرياته بالرجوع  لما دار بينه و بين أبناءه الثلاثة .

    توقفت ذكرياته عند اليوم الذي سبق حديثه مع ابنه الأكبر ، كان يجلس على كرسي أعلى الجميع و هو يتبختر بما اشتراه لابنه ذو العشر سنوات من ألعاب و هدايا و أشياء أخرى فهذه اللعبة بألف ، و تلك الهدية بضعف سعر الأولى و ذلك الهاتف المحمول الذي اشتراه بثلاثة آلاف و نصف ، ماذا أفعل ؟! ، لم أستطع تحمل نظرات ولدي لي فما كان مني إلا أن استجبت له ، هكذا قال ، لعله لم ينتبه للنظرات المشدوهة من الجميع ، أو لربما هو أراد أن يصنع تلك النظرات ليستمتع بلحظات فخرٍ و تعالٍ بما لديه .

    ظهيرة اليوم التالي .. بحاجة للعلاج يا بني و العلاج مكلف .. فما تقول يا بني ؟! ، أممم لا أعلم يا أبي ، أخذ في التنهد للحظات و عاد للحديث بقوله ، تعلم يا والدي لا أمان لهذه الحياة و ما لي هو لأبنائي مستقبلا ، فإن أردت المساعدة فعليك بتوقيع وصل أمانة .

    وزع أبو داؤود نظراته بين الطفل و المشفى الذي يمكن بلوغه مشياً بدقيقة واحدة لا أكثر ، و حكى للطفل كم هو موجع أن يسعى الإنسان للحصول على شيء و الجميع يسعى لإبعاده عنه ، و أوضح له أن هذا هو شعوره ، فلم يبقى سوى المال للخضوع لعملية تحبط انتكاسة موت لذلك الجسد المنهك .

    أثار المطر المغبر الذي هطل للتو تنبه أبو داؤود لمكان وجوده ، وضع يده على ركبتيه مستعدا للنهوض و الرحيل ، لملم همته و حاول النهوض مرة و أخرى ، خذلته ركبتاه فما استطاع القيام ، استسلم فبقي مكانه وسط المطر ، وسط البرك .

    عاد لذكرياته و هو تحت رحمة زخات المطر فتذكر لقاء ابنه الأوسط الذي جلب معه امرأته تلك اللئيمة ، ما أن انتهيت من شرح حالتي و طبيعة مرضي حتى وافق ابني و أبدى كل الأسف لما حل بي و لكن تلك الملعونة وضعت كف يدها على كتف ابني و أرجعته للوراء لتتفاهم معي ، لم تقل تلك المعتوهة إلا جملة واحدة ، لم تعد شابا تقبل عمرك و مرضك و كن كبقية العجزة متقبلين لمصيرهم .

    نظرت تلك الوقحة نظرة لابني بوسط عينيه فارتجفت أطرافه و أطلق شفتيه بقوله : صحيح ما تقولين ، تقبل ذلك يا أبي ، للكل عمر افتراضي و أعتقد أن جسدك قد عطب فتقبل ذلك ، هنا نظر ابني لزوجته فأعطته ابتسامة رضا منها و خرجا مسرعين .

    من يرى تعامل ابني لزوجته لا يضع غير ثلاث احتمالات أولها هو أنه يعبدها حبا ، أو لربما يحترمها بشدة فيخاف أن يخيب ظنها به ، أما الإحتمال الثالث فهو أنها تشبعه ضربا بالحذاء فيخافها خيفة الجلاد ، بالطبع أنا لا أشك لوهلة واحدة بأن الإحتمال الثالث هو الأجدر بالتصديق ، بل إني أكاد أجزم بذلك فما أكثر الكدمات الحمراء و الزرقاء التي يأتي بها كلما أتى للزيارة وأخذ يمثل كيف أنها تشبعه ضربا و هو يصرخ طالباً الرحمة فأخذ الطفل بالضحك الطفولي الممتلئ بالسعادة ، أما أبو داؤود فأخذ بملء رئتيه بالهواء بعد الجهد المفاجئ الذي بذله .

    توقف المطر عن الهطول فهبت رياح يشوبها دفء غريب فسرت قشعريرة بجسد أبي داؤود جعلته يتلفت ذات اليمين و اليسار ، فلم يجد حوله غير ذلك الطفل الممتلئ الذي كان خير مستمع لخذلان أبنائه ، تحدث الطفل فقال : ماذا حدث مع ابنك الثالث يا عم ؟ .

    ابني الثالث لم يكن أفضل من سابقيه فما كان جوابه سوى أن قال : هل أعطاك أحدهما شيء ؟ ، إن كان لا ، فلم علي فعل ذلك ، أعطيك مثل ما يعطوك و لن أدفع ما عليهما دفعه .

    صمت لبرهة فور رؤيته انعكاس صورة وجهه على صفحة بركة ماء قد تلملمت جراء المطر ، تجاعيد و تطبيقات لقوانين الجاذبية ، فكل جزء من جسمه قد استسلم لتلك القوانين بانجذابه للأسفل عدا وجهه الذي قد أخذت تجاعيده بالتجمع تجاه أنفه الذي قد بدا كمركز وجهه المستدير ، بدأ يتحدث بصوت منخفض قائلا : لعل ما قالته تلك المعتوهة صحيح ، تقدم بي العمر و آن الأوان للاستسلام لمسيرة الحياة .

    بدا و كأن دفعة رفض للفكرة قد اجتاحت عقله بسرعة خارقة فإنتفض و أخذ يصرخ  بعبارات استنكار يشوبها الكثير من السباب لأبنائه الثلاثة ، أخذ يضرب كف يده بالأخرى و هو يحرك رأسه يمينا و يسارا ثم أطلق نفسا بصوتا مسموعا ، التفت إلى الطفل و قال بصوتٍ ملؤه البؤس و الكدر : هذه حكاية أبنائي ، هذا ما أردت معرفته  ، هذا ما بي .

    ظل الطفل في لحظات هدوء ثم رفع كرشه و وقف في ثقة و هو يبتسم ، أخرج ما لديه من أوراق مالية قليلة و لعبة مهترئة و قدمها لأبي داؤود قائلا : لِمَ لَمْ تقل أنها مسألة نقود منذ البداية ، خذ هذه و قم للمشفى لعلاج نفسك ، تبسم أبو داؤود و قد بدأت عينيه بخيانته بامتلائها بدموع محيرة بين دموع فرح لوجود من يهتم ، و دموع حسرة على أولاده الملاعين ، أخبره بأن النقود لا تكفي فأصر الطفل بقوله : إن كانت تكفيني فهي بالتأكيد سوف تكفيك كما إنني أعلم أنك لا تريدها خوفا من إبرة المشفى ، بكى أبو داؤود و أخذ النقود و هو يردد بأنه خائفا من الإبرة حقاً ، استأذن الطفل بالرحيل فالوقت قد تأخر قليلا ، نظر أبو داؤود للطفل و هو يرحل فاتسعت شفتيه بابتسامة صغيرة .

    استعان بعصا ملقية بالقرب للقيام من مكانه ، توجه مباشرة لمحل بقالة قريبة ، توقف أمام الكشك و بيده علبة مشروب غازي ، نظر لنقود الطفل و نظر للمشفى الذي بالإمكان رؤيته من زجاج مقدمة البقالة و ابتسم ، طلب علبة سجائر و ألقى ما لديه من نقود الطفل ثم خرج و السرور قد احتل قلبه .

    أخذ في مسيرة الرجوع للبيت و السيجارة قد أوصلته للنشوة المعتادة ، أخذ بالنظر لمكان جلوسه السابق فابتسم و أخذ يحدث نفسه بأن يعدَّ نفسه يوم غد ليسلب نقود طفلٍ أحمقٍ آخر .