تأملات في ملحمة الطف

الأستاذ حسين صليل *
اقرأ للكاتب أيضاً

 إن واقعة الطف ليست مجرد ثورة حصلت في التاريخ وانقضت بانتهائها، بل هي نهضة شاملة بما تحمل كلمة نهضة من معنى، وهي مدرسة متكاملة للأجيال على مر الأزمنة والعصور.

في كل عام تتجدد مصيبة عاشوراء وتفتح مجالس العزاء في كل أنحاء المعمورة لإقامة المآتم لذكرى سيد الشهداء وسبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمام الحسين عليه السلام، ونجدد البكاء والنياحة ونذرف الدموع لهذه الفاجعة الكبرى والمصيبة العظمى، وهي مصيبة تستحق منا بحق أن نبكي بدل الدموع دماً كما يقول إمامنا الحجة المنظر أرواحنا له الفداء في زيارة الناحية المقدسة " فلأندبنك صباحاً ومساء ولأبكين عليك بدل الدموع دماً"[1].


لكن هل أن تجديد ذكرى نهضة الإمام الحسين عليه السلام هي للبكاء فحسب أم أنها وجدت لتأخذ مدى أبعد وأدق من ذلك، ولا نقصد هنا أن البكاء ليس مطلوباً، بل هو غيره من أشكال الشعائر الحسينية المؤكدة في روايات أهل البيت عليهم السلام وفتاوى علمائنا الأبرار رحم الله من مضى منهم وحفظ من بقي تؤكد على أهميتها فقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام "فعلى مثل الحسين فلبك الباكون فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام" [2]، حيث أن البكاء له فلسفته النفسية والاجتماعية ولسنا الآن بصدد ذلك، بل لنؤكد أن الحسين عليه السلام عبرة وعبرة ، يقول ربنا عز وجل ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ [3]

إذاً لنسأل أنفسنا ما هي الدروس التي نستفيدها من هذه النهضة المباركة ؟

إن الدروس التي نستلهما من هذه الملحمة العظيمة كثيرة لا تبلغ الحصر، وإنما نسلط الضوء على ما تيسر لنا .

 1-  التمسك بالعبادة والتوجه إلى الله سبحانه مهما كانت الظروف

ربما يكون الشخص منا متوجه إلى الصلاة وقراءة القران وغيرها من العبادة لكن ذلك في الأوقات التي يكون فيها مرتاح البال وهادئ الأعصاب، لكن عندما تلم به مصيبة وتنزل به فاجعة ما يحدث .

 في كربلاء أهل البيت عليهم السلام وأصحابهم هل تركوا صلاة الليل ؟ هل تركوا تلاوة القران، بل إن الإمام الحسين عليه السلام طلب من أعدائه تأجيل القتال إلى يوم العاشر من المحرم للصلاة وقراءة القران، فمن يمر على خيام الحسين يسمع دوي كدوي النحل .

ألم تصلي العقيلة زينب صلوات الله عليها ليلة الحادي عشر من جلوس ، إنها لم تترك صلاة الليل رغم المصائب التي لا تحملها الجبال الرواسي .

2-  امتحان الأصحاب قبل الاعتماد عليهم

ليلة العاشر من المحرم امتحن الإمام الحسين عليه السلام أصحابه قبل أن يعتمد  عليهم في المعركة ، حيث ينقل أن الإمام قال لهم ما مضمونه أن القوم ليس لهم طلبه غير فليأخذ كل واحد منكم يد وأحد من أهل بيتي وليذهب إلى مأمنه من الأرض وبين لهم أن مصيره ومصير من يبقى معه القتل ، حيث أن البعض يظن أن الأمر يؤول إلى الإمام عليه السلام ، وبالفعل فإن بعضاً ممن خرج مع الحسين عليه السلام رحل عن كربلاء ولم يبق معه إلا الصفوة الطيبة رضوان الله عليهم أجمعين .

3- المواساة والإيثار

إن من أعظم القيم الأخلاقية الإيثار يقول الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[4]

انظر إلى كربلاء لترى كيف تجلى الإيثار في الحسين عليه السلام وأصحابه، لما أن كانت ليلة العاشر أصحاب الحسين يتفقون على أن يتقدمون قبل الهاشميين، وعندما وصل العباس إلى المشرعة وغرف الماء فلم يشرب وحمل الماء إلى خيام الحسين فلا يشرب الماء قبل الحسين وِأيتامه .

4-   الصبر على المصائب

الصبر على المصائب يعنى التسليم لقضاء الله وقدره، وليس عدم البكاء فالإمام الحسين عليه السلام  بكى على أصحابه وأهل بيته لكنه يقول هون علي ما نزل بي أنه بعين الله، وعندما قتل الإمام الحسين صلوات الله عليه جاءت مولاتنا زينب سلام الله عليها ورفعت الجسد الطاهر وقالت اللهم تقبل منا هذا القربان.

أن بضنا عندما تلم به مصيبة يتشكى ويقول ما يسخط الله مثلاً ماذا فعلتُ يارب حتى يحدث لي ذلك وهو يعلم أن الله لو يؤاخذه بعمله لأهلكه فوراً يقول تعالى ﴿وَلَو ْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [5]

 

هل للإمام الحسين عليه السلام ذنب حتى يقتل وحتى ترض صدره الخيول ووو..إلخ إنما هي درجات ومصائب يبتلي الله بها عباده فالصابر ينال الدرجات العلى يقول عز شأنه ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [6]

السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين

نسأل الله أن يجعلنا مع الحسين والسائرين على دربه والمقتفين أثره وأن يرزقنا زيارته في الدنيا عاجلاً، وفي الآخرة شفاعته إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين .

كاتب ( السعودية )