معاول هدم المجتمعات والدول والحضارات:

قراءة في أسباب السقوط وعوامل الانهيار

لأنّ التفسير القرآني للمجتمعات وقيامها وسقوطها تفسير علمي سُنني؛ فهو سببي عِلّي، يؤمن أنّ هناك أسباباً من شأنها إيجاد المجتمع، وولادته، وانبثاقه ونشأته وقيامه، وظهوره وبروزه في مسرح التاريخ، وهناك أسباب أخرى من شأنها أن تديم المجتمع وتبقيه إلى مدة معيّنة من الزمن: قصيرة أو طويلة، وهناك أسباب من شأنها أن تسقم جسد المجتمع في طفولته أو شبابه أو شيخوخته، ثم تسقط دعائمه وبناءه، وتهدمه، ثمّ ترسله إلى الانهيار والموت والفناء.

وبهذا.. فالقراءة التحليلية الفاحصة التي يقوم بها القرآن الكريم للمجتمع تقف أمام ثلاثة أنواع من الأسباب الاجتماعية العاملة:

1ـ أسباب نشوء المجتمع.
2ـ أسباب بقاء المجتمع.
3ـ أسباب فناء المجتمع.

وفيما يلي سنعرض لبعض عوامل الهدم والفناء التي كانت - وستبقى - سبيلاً لمحوّ مجتمعات كانت يوماً ما.. راسخة عتيدة في وجه الشمس:

1-  مخالفة القيم:

لقد شرع الله - سبحانه وتعالى - سنناً وقيماً تحكم الوجود في أبعاده: التكوينية والتشريعية والاجتماعية، فخطّ للإنسان طرق تعامله مع الله، ومع أخيه الإنسان، ومع الطبيعة.
وهذا ما خطّته الرسالات السماوية باعتبارها الطريق الوسيط بين الخالق والمخلوق، فكان التعامل الصحيح لمريدي بقاء المجتمع أن يتبعوا تلكم القيم؛ لتنقذهم من واقعهم السيئ، وتنتشلهم من الوهدات السحيقة إلى ذرى الرفعة والعلياء، ومن تلك القيم:

أ- القيمة الدينية العليا (الإيمان بالله):

من حبّ الله العميم لخلقه، وعنايته الفائقة بهم، أنّ أكرمهم بالعقل والفطرة السوية، وألهمهم التمييز، والقدرة والاختيار: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا( )، ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا( )، ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ( )، وبعث لهم رسلاً منهم يثيرون فيهم دفائن الفِطَر والعقول، ويتولون عملية إخراجهم من الظلمات إلى النور، ورعاية المسيرة البشرية وحركة المجتمع: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا( ).

"واصْطَفَى ـ سُبْحَانَه ـ مِنْ وَلَدِه [أي ولد آدم] أَنْبِيَاءَ، أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ، وعَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِه عَهْدَ اللَّه إِلَيْهِمْ، فَجَهِلُوا حَقَّه، واتَّخَذُوا الأَنْدَادَ مَعَه، واجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِه، واقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِه؛ فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَه، ووَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَه؛ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِه، ويُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِه، ويَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، ويُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، ويُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ: مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ، ومِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ، ومَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ، وآجَالٍ تُفْنِيهِمْ، وأَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ، وأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ، ولَمْ يُخْلِ اللَّه ـ سُبْحَانَه ـ خَلْقَه مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ، أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍ، أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ"( ).

وكان الإيمان بالله القيمة الدينية العليا من بين مجموع القيم؛ لأنّها ـ بما تضفيه من منجزية ومعذرية ليوم القيامة ـ تغدو القيمة المرشدة والمؤكدة والمرسّخة والناظمة لسائر القيم والمثل الإنسانية الكبرى المحرّكة لسلوك الإنسان في جوانب (الحقّ، والخير، والجمال)، والعين الحارسة الصائنة لها، والمراقبة لمسيرة أدائها، والقلب النابض الباعث على الحيوية والفاعلية فيها، واليد العاملة على تحقيقها؛ ولذلك اتفق جميع الأنبياء في الدعوة لهذه القيمة العليا الناظمة:

ـ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلا أَنَا فَاعْبُدُونِ( ).

لكنّ المجتمعات خالفت هذه القيمة الأساس المرشدة الناظمة؛ فكان ذاك سبباً لزوالها:

ـ ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا( ).
ـ ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأحْزَابُ * إِن كُلٌّ إلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ * وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاء إلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ( ).
ـ ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ( ).
ـ ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ( ).
ـ ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ( ).

ب - القيم الدينية الفرعية:

ومن تلك القيمة العليا التي هي (الإيمان بالله)، وما تؤكده من قيم (الحقّ والخير والجمال) تترسّخ وتتفرّع وتتعمق وتنتظم الأبعاد الثلاثة التي يتكون منها الدين، وهي: البعد العقدي، والبعد الأخلاقي، والبعد التشريعي.
فالأمور المرتبطة بوجود الله وتوحيده وصفاته والنبوة والإمامة والمعاد والأحكام العقدية الأخرى هي فرع الإيمان بالله تعالى وقيمة الحقّ.
والقيم الأخلاقية (كالعدل، والتسامح، والإحسان) مع قيمتها الذاتية المستلة من قيمة الخير، يمثّل الإيمانُ بالله المثلَ المطلقَ الذي تنشده، والذي يحدد وجهتها ومعاييرها، والإثابة الأخروية عليها.
والقيم التشريعية تحمل في داخلها مصالح حقيقية في ذات الأشياء تستهدف إيجادها، وطرد مفاسد كامنة فيها، أو تحمل مصالح جعلية قضت الحكمة الربانية توفيرها في تلك الأشياء، فهي أحكام تهدف جلب المصلحة ودفع المفسدة، وليست مجرّد أحكام تكليفية يقوم بها الإنسان تعبّداً وامتثالاً للأمر الإلهي، لكنّ الدالّ عليها والكاشف لها هو الشرع، وتطبيقها وامتثالها رهن الإيمان بالله وأنّها تشريعات من لدنه.
وحتى على القول بأنّ مصلحة الأحكام الشرعية تكمن في جلب مصالح ومنافع في ذات الأمر والحكم والتشريع، لا في ذات الأشياء، فإنّها أوامر وأحكام غائية هادفة، ليست لهوية، ولا عبثية، ولا اعتباطية لَغوية، فهي تخلق الطاعة والتعبّد والامتثال والخضوع عند للإنسان للحكم الإلهي، وحينها حتى لو أدى سلوك الدليل الظاهري والأمارة لتفويت المصلحة الواقعية في ذات الأشياء، فإنّه يخلق (مصلحة سلوكية) في امتثال الأمر والأخذ بالدليل الذي عيّنه وجعله الشارع.

ونتيجة لعدم إيمان كثير من المجتمعات السابقة فقد خالفت القيم الفرعية أيضاً، واجترحت الذنوب والمعاصي التي أدت إلى اجتثاثها: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ( )، ﴿أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ( ).

وإذا كانت هذه الآيات الكريمة قد أجملت سبب هلاك تلك المجتمعات، وأنّه (الذنوب) التي اقترفتها، فقد فصّلت آيات أخرى تلك الذنوب التي اجترعتها، والقيم التي تمرّدت عليها، وداستها بأرجلها، والذنوب والمعاصي التي فعلتها:
أ- فقوم نوح؛ لتكذيبهم نبيَّهم، وتماديهم في المعاصي: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا( ).

ب - ومجتمع لوط؛ لمخالفتهم قيمة الشرف، وأخذهم بالشذوذ والمثلية: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * ..... * إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( ).


ج - ومجتمع شعيب؛ لمخالفتهم قيمة العدل الاقتصادي، واعتمادهم على التبادل الاقتصادي الجائر (من تطفيف الكيل وتخسيره): ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * .... * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ( ).

وقد تفجّرت معادن الحكمة على لسان رسول الله ؛ لتبيّن الآثار التكوينية والاجتماعية لنقض القيم، فقال : "إذا كثر الزنا كثر موت الفجأة، وإذا طُفِّف المكيال أخذهم الله بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركاتها من الزرع والثمار والمعادن، وإذا جاروا في الحكم تعاونوا على الظلم والعدوان، وإذا نقضوا العهود سلَّط الله عليهم عدوَّهم، وإذا قطعوا الأرحام جُعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ولم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي سلَّط الله عليهم أشرارهم فيدعو عند ذلك خيارُهم فلا يُستجاب لهم"( ).

وقال : "ما ظهر الغلول في قوم قطّ إلا أُلقي في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنا في قوم قطّ إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قومٌ المكيالَ والميزانَ إلا قُطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحقّ إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر قومٌ بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو"( ).

وقال : "ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يُغيّروا عليه فلا يغيّروا، إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا"( ).

وقال : "إذا غضب الله - عزّ وجلّ - على أمة ولم ينزل بها العذاب: غلت أسعارُها، وقصُرت أعمارُها، ولم تربح تجّارُها، ولم تُزكَّ ثمارُها، ولم تغزر أنهارُها، وحبس الله عنها أمطارَها، وسلّط الله عليها شرارَها"( ).
وقد ردّ غوستاف لوبون سبب سقوط الأمم إلى سبب أساسي هو (الانحطاط الأخلاقي) فقال: "ونحن إذا ما بحثنا في الأسباب التي أدت بالتتابع إلى انهيار الأمم، وهي التي حفظ التاريخ لنا خبرها كالفرس والرومان وغيرهم، وجدنا أنّ العامل الأساسي في سقوطها هو: تغيّر مزاجها النفسي تغيّراً نشأ عن انحطاط أخلاقها، ولستُ أرى أمة واحدة زالت بفعل انحطاط ذكائها"( ).

كما أشار السيّد جمال الدين الأفغاني إلى أثر فضائل الأخلاق في الصعود، وأثر رذائل الأخلاق في الهبوط، فقال: "هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها في التحلي بالفضائل التي أشرنا إليها، وجعل هلاكها ودمارها في التخلي عنها، سنة ثابتة لا تختلف باختلاف الأمم، ولا تتبدّل بتبدل الأجيال"( ).

وفي سنة 1962م حذّر (خروتشوف) - رئيس الاتحاد السوفيتي سابقاً - من المستقبل الكالح الذي يتهدد (روسيا)، فقال: "إنّ مستقبل روسيا في خطر، وليس للشباب مستقبل مؤمل؛ إذ أصبحوا انحلاليين إباحيين عبيداً لشهواتهم"( ).
غير أنّ صرخته تلك كانت (صيحة في واد)، ولم تجد أذناً تصغي إليها، فتحلل الاتحاد السوفيتي الذي كان يوماً أكبر دولة على وجه الأرض، وتهاوى تحت معاول الهدم، فشهد العالم زواله في سنة 1991م.
وإذا كانت تلك صورة الشرق واندثاره، فما هي صورة الغرب؟

إنّ أرباب التاريخ في الغرب حين يستجلون الصورة الاستشرافية لمستقبل حضارتهم يرون أنّها هي الأخرى تقع تحت رهن عوامل النخر والاندثار، ومن ثمّ قال شبنجلر: إنّ هذه الحضارة الغربية تسير نحو "مصيرها المحتوم، وهو التدهور، والهلاكُ مرتقبٌ في المستقبل المنظور"( ).

ويصوّر سيّد قطب بعض نتائج مادية الغرب اليوم ومآلها الذي ستصل إليه، فيقول: "إنّ العذاب النفسي، والشقاء الروحي، والشذوذ الجنسي، والانحلال الخلقي.. الذي تقاسي منه هذه الأمم اليوم ليكاد يصبغ الحياة كلّها بالنكد والقلق والشقاء، ذلك إلى جانب الطلائع التي تشير إليها القضايا الأخلاقية السياسية، التي تُباع فيها أسرار الدولة، وتقع فيها الخيانة للأمة، في مقابل شهوة أو شذوذ..، وهي طلائع لا تخطيء على نهاية المطاف"( ).

إنّ الصورة المجتمعية للغرب القائم اليوم تجد مثالها التاريخي القديم في (قوم شعيب)، ففيها تُعربد المادية الطاغية التي قتلت القيم، والتي تحكي (رأسمالية) جشعة تتلاعب بموازين (العرض والطلب) كما تلاعب قوم شعيب بالتطفيف والتخسير في الميزان، بما يوحِّد هذين النموذجين التاريخيين (القديم والمعاصر) في إطار يشمله قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ( )، كلّ ما في الأمر: أنّ أحدهما نموذج تاريخي مندثر، والآخر نموذج معاصر قائم، بل.. وأعظم من ذلك: أنّ ماديتها لم تقف عند حدود الاقتصاد، بل.. كانت نفعية براغماتية أهدرت القيم: الدينية والأخلاقية، فأضافت لثقلها شيئاً من أعباء الأمم الأخرى كالتحلل والشذوذ والظلم والطغيان.

وقد تحدث الرئيس الأمريكي الأسبق (جون كنيدي) في سنة 1962م عن المستقبل المؤلم لأمريكا، وأثر الانحلال الأخلاقي في ذلك، فقال: "إنّ لأمريكا مستقبلاً مؤلماً؛ إذ الشباب انحلاليون وغارقون في الشهوات، وغير مستعدّين لأن يقوموا بما يُحوَّل عليهم من تكاليف، فمثلاً: من كلّ سبعة من الشباب يدخلون في الجندية يخرج ستة منهم ضعفاء غير لائقين؛ ذلك أنّ إفراطهم في شهواتهم قد استنفد منهم استعداداتهم النفسية والجسدية"( ).

فالانحراف في إشباع الغريزة الجنسية جعل فرائص مجتمعات القرن الواحد والعشرين ترتعش رعباً وهلعاً من مرض الإيدز الذي سلبها لذة الوسن وبهجة الحياة، حتى بلغ عدد المصابين به 40,000,000 مصاباً( ).

ولا نستغرب إذا وجدنا أنّ كثيراً من الفلاسفة المعاصرين والمفكّرين والشعراء وغيرهم يسمّون القرن العشرين عصر الاضطرابات النفسية وعصر القلق( )، ويعزون تفشي القلق في هذا العصر إلى أسباب منها: عقلنة الحياة الثقافية والسياسية التي طردت المعطيات الأخلاقية( )، واستخدام الآلة المرتبط بالتقانة الذي قلل من قيمة الإنسان، والانحراف في مسار العلم الذي جعله يسهم في خلق قلق مزمن وخوف دائم لدى أبناء الجنس البشري، لاسيما مع انحراف بعض أغراضه نحو القنابل الذرية وغيرها، وانتشار الصدود والتأزم الناجم عن العصر، وتفشي أنواع الإحباط، وما ساد في هذا العصر من المنع والحرمان( ).

لقد كان فلق الذرة أكبر إنجاز بشري في الحقل العلمي، وكان تخيُّل الفائدة الهائلة العائدة منها في دنيا الطبّ والطاقة وغيرها.. حلماً لذيذاً منعشاً، بيد أنّها - وبفعل تحوير مسارها - أضحت أكبر قلق يساور المجتمعات البشرية، ويهدِّدها بالفناء، بعد أن تحوِّل مصبّ المياه إلى غير مجاريها ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ( ).

ومن ثمّ أمست أسئلة مثل: (هل ستتفكك أمريكا إلى ثقافات؟)، (هل سيقع صدام الحضارات داخل المجتمع الأمريكي نفسه؟)( )، (هل سيقع صدام داخلي في المجتمع الأمريكي نتيجة عدم التجانس الاجتماعي والإثني؟)، (هل سيدافع الحزبان المتصارعان فيها - الديمقراطي والجمهوري - عن الليبرالية لو وقع الصدام؟) .. مطروحة من قِبَل بعض الأمريكيين والغربيين قبل غيرهم، فألف (بول كنيدي) (صعود وهبوط الإمبراطوريات)، وألف (توفلر) (الموجة الثالثة)، وألف (جيمس كورت) (الصدام الحقيقي)، وأشار (صامويل هانتنغتون) لبعض ذلك في كتابه ذائع الصيت (صِدام الحضارات)!!

ومخالفة القيم عنوان عام ترجع إليه جميع الأسباب الأخرى لسقوط المجتمعات؛ لأنّ أيّ واحد من أسباب سقوط المجتمعات ما هو إلا تجاوز ونقض لقيمة من القيم، لكنّنا نفرد بعض تلك الأسباب بالدراسة؛ نظراً لأهميتها في عملية السقوط الاجتماعي والحضاري.

2- الترف المادي:

الترف هو عبارة عن نقض لقيمة الاعتدال المالي، وحسن التصرّف تجاه المال والنعمة، فكثيراً ما يلازم النعم أمران مختلفان من قِبَل من أُسبغَت عليهم:

أ- الكفران والجحود:

كثير من المجتمعات تقرن النعمة الضافية المسبغة عليها بكثبان الكفران والجحود: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ( ).
والكفران لا ينحصر في ترك الشكر القلبي واللفظي، وإنّما يشمل الكفران العملي بإهمال تلك النعم وعدم استثمارها، وترك العمل الصحيح الذي يناسبها، كعدم توزيعها على مستحقيها: ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ( ).

وقد يتعدى كفرانُ النعم الوقوفَ عند حدّ الجحود والإنكار، ويتقدم ليصل إلى مستوى استعمال النعم في الشرّ والظلم والإجرام، واستغلال تلك النعم والثروات لممارسة الظلم والعدوان، لاسيما وأنّ المال أداة مثلى لشراء الذمم وتكديس الرجال والسلاح ومكامن القوة لاستخدامها ضد الآخرين: ﴿وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ( )، ويصل التعالي بالترف إلى حدّ دوس القيم نفسها وضربها بعرض الحائط، والاطمئنان للمال بما يصل إلى إنكار الآخرة وتكذيب الرسل: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا( )، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ( ).

ب - الطغيان والبطر:

وكثيراً ما يلازم النعم - أيضاً - الطغيان والبطر بالنعمة!!

القرآن الكريم لا يعارض حلول النعمة وسكنها في حياة الناس: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( )، وإنّما يقف في وجه المظاهر الزائفة للترف والبذخ، فـ "الترف يفسد الفطرة، ويغلظ المشاعر، ويسدّ المنافذ، ويفقد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي تتلقى وتتأثر وتستجيب، ومن هنا يحارب الإسلام الترف"( ).

﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إلا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ( ).

وهنا يتمّ الاستغلال السيء للنعمة، وجعلها للأبهة والإسراف الداخلي، وطريقاً للطغيان وممارسة الظلم الاجتماعي والقهر السياسي بحقّ الغير، وسلب خيرات المجتمعات الأخرى وإذلالها؛ فتتحوّل النعمة - بالاستعمال السيء لها - من خير للمجتمع إلى أداة لقصم ظهره: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا( ).

إنّ الله لا يأمر المترفين بالفسق، وإنّما يأمرهم بالخير والصلاح، فيصدون كشحاً، ويواجهون أمره بالفسق والفجور!!

وفي قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ( )، يقول الإمام الصادق : "هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة ينظر بعضهم إلى بعض، وأنهار جارية، وأموال ظاهرة، فكفروا بأنعم الله، وغيّروا ما بأنفسهم من عافية؛ فغيّر الله ما بهم من نعمة، و﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ( )، فأرسل الله عليهم سيل العرم، فغرّق قراهم، وأخرب ديارهم، وأذهب أموالهم، وأبدلهم مكان جنّاتهم جنتين ذواتي أُكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل، ثمّ قال: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إلا الْكَفُورَ( )"( ).

ويقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ *  إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ( ).

وهذه الآيات الشريفة تذكر سببين لتدمير أمم كانت قوية هي (إرم، وثمود، والفراعنة)، وهذان السببان يكمنان في: الطغيان، والإفساد في الأرض. وعادة ما يتلازم الطغيان والإفساد، ويتقارنان تقارناً سببياً، فيؤدي الطغيان وتجاوز الحدود إلى العيث في الأرض فساداً وتخريباً، لا سيما إذا وصل المجتمع الطاغي إلى مستوى التمكين والاقتدار المالي والسياسي والعسكري، فيسكنه الإفساد الداخلي بالتدمير الذاتي لمجتمعه والفئات الضعيفة فيه، ويسكنه الإفساد الخارجي المصدّر للمجتمعات الأخرى التي يحلّ بها ظلمه وتخريبه وفساده، على شاكلة المجتمعات والدول التي تبلغ التمكين والاقتدار فتهبّ لغزو المجتمعات والدول الأخرى، وسقيها كؤوس الذلّ والمهانة، وتمتصّ خيراتها، وتصبغ أرضها بدماء أبريائها، وتغتصب عفة فتياتها، وترمل النساء، وتيتم الأطفال!!

يقول أمير المؤمنين : "فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ووقائعه ومثلاته، واتعظوا بمثاوي خدودهم، ومصارع جنوبهم"( )، ثمّ يقول : "ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون - عليهما السلام - على فرعون وعليهما مدارع الصوف، وبأيديهما العصي، فشرطا له - إن أسلم - بقاء ملكه، ودوام عزّه، فقال: (ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ وبقاء الملك، وهما بما ترون من حال الفقر والذلّ، فهلا ألقيَ عليهما أساورة من ذهب؟!!)" ( ).

وإذا كان مثال (سبأ وسيل العرم) (والفراعنة) نموذجين تاريخيين حصلا في الماضي، فقد تنبّأ الرسول الأكرم بدور الترف في سقوط الحضارة الإسلامية فقال: "أظنّكم سمعتم أنّ أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين، فأبشروا وأمّلوا ما يسرّكم، فوالله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم؛ فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم"( )، "إنّ الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم، وهما مهلكاكم"( ).
وقد بدأ ما حدّث به النبي يحصل في واقع المسلمين الخارجي من بواكير زمن الصحابة، ففي أيام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال: فبنى عثمان له دارة بالمدينة، وشيّدها بالحجر والكلس، وجعل أبوابها من الساج والعرعر، وكان له يومَ قُتل عند خازنه خمسون ومئة ألف دينار، ومليون درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما.. مئة ألف دينار، وخلّف إبلاً وخيلاً كثيرة. وبنى الزبير بن العوام له دارة بالبصرة، ودوراً بمصر والكوفة والإسكندرية، وبلغ ماله بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخلّف ألف فرس وألف أمة. وبنى طلحة بن عبيد الله دارة بالكوفة، وشيّد دارة بالمدينة، وبناها بالجصّ والآجرّ والساج، وكانت غلته من العراق ألف دينار كلّ يوم، ومن ناحية السراة أكثر من ذلك. وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف مئة فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً. وخلف زيد بن ثابت من الذهب والفضة ما كان يُكسر بالفؤوس غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة مئة ألف دينار، وبنى سعد بن أبي وقاص دارة بالعقيق، ورفع سُمكها وأوسع فضاءها، وجعل على أعلاها شرفات. ومات يعلي بن منبه، وقد خلف خمس مئة ألف دينار، وديوناً على الناس، وعقارات، وغير ذلك من التركة ما قيمته ثلاث مئة ألف دينار( ).

وقد سار الأمويون على النهج الكسروي حيث الترف والبذخ، حتى أنّه "سُئل بعضُ شيوخ بني أمية ومحصّليها عقيب زوال الملك عنهم إلى بني العباس: ما كان سبب زوال ملككم؟،[فـ] قال: إنا شُغلنا بلذاتنا عن تفقد ما كان تفقده يلزمنا، فظلمنا رعيّتنا، فيئسوا من إنصافنا، وتمنّوا الراحة منا، وتُحومل على أهل خراجنا؛ فتخلوا عنا...." ( ).

وسارت على مسار الترف المادي نفسه الدولتان: العباسية والأندلسية، مما حدا ببعض الباحثين إلى القول: "وجدنا أنّ البذخ والترف والفساد من الأسباب المهمة في انحلال الدول وسقوط الحضارات، ورأينا كيف أسرف الناس في الترف، وكيف تفننوا في الخلاعة والفساد والمجون؛ مما جعلهم أبعد ما يكونون عن الجهاد، وعن صيانة حضارة عظيمة، فأضاعوا الدولة الإسلامية، وبكوا عليها كالنساء؛ لأنّهم لم يحافظوا عليها كالرجال - كما ورد على لسان أمّ آخر ملك من ملوك الأندلس -، وهذه الحالة تمرّ بها الحضارة الغربية الآن، فهي حضارة بذخ وترف بأقصى حدّ ممكن، وهي حضارة اقتناص اللذة"( ).

وفي معرض تحليل (أدوارد جيبون) لأسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية يشير إلى الانغماس في الرذيلة والترف وحياة الدعة والكسل والخيانة والغدر والتناحر من أجل السلطة، وما إلى ذلك من الأسباب الأخلاقية الأخرى( ).
ولنا أن نستجلي صورة من ترف بعض المجتمعات الرأسمالية الحاضرة التي يموت فيها البعض من السمنة والبدانة في الوقت الذي تلقي فيه فائض الإنتاج من القمح في البحر (أمريكا)، وتحرق التفاح (فرنسا)، تحت مسمّى المحافظة على سعر المنتجات، والموازنة بين العرض والطلب، وفوق ذلك تهتمّ برعاية الكلاب والقطط، وتوفير الأكل والعلاج والمسكن المريح لها، في حين ترزح الملايين من شعوبها تحت نير الفقر وسياط الجوع، وتسكن العراء، ويفترسها شبح المرض والموت. وبعض هذه المجتمعات (أسبانيا) يجعل لها يوماً سنوياً يلعب فيه بالطماطم، حتى تسيل منه الأنهار في الشوارع!!

"وبريطانيا غرّتها إمبراطوريتها العظمى ومستعمراتها الواسعة [الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس!!]، فجُوبهت بمقاومة واسعة، فجرّت أذيال الخيبة والاندحار، وأصبحوا يطلقون عليها (المستعمِر العجوز)، ورؤساء أمريكا مغرورون بقوتهم وجبروتهم فاندحروا في فيتنام"( ). 

و(ألمانيا النازية) بلغت مشارف موسكو، واغترّ هتلر بعِرقه الأزرق، وبجنسه الألماني، فقال بنظرية العرق (الجيرمني) الأزرق المتميّز، وبقدراته الخارقة؛ فاندحر وانكسر، وقُسّمت دولته، وانتحر!!
وقد أدى التسابق النووي، ودخول النادي النووي، وسياسة (توازن الرعب)، إلى الترف في الإنفاق على التسلّح العسكري، وجعل أكثر الدول الحاضرة تسرف في شراء السلاح على حساب الجوعى والمحتاجين من أبنائها، لا يقتصر هذا على الدول العظمى، بل يلف بحباله دول العالم، حتى دول العالم الثالث المتخمة بالفقر والجوع والمرض والجهل والأمية.

3ـ الظلم الاجتماعي:

الظلم نوع من مخالفة القيم، فهو هدم لقيمة العدل الذاتي والاجتماعي (العدالة الفردية والاجتماعية)، بيد أنّ له كثافة انتشار وحضور في المجتمعات، وله تنوع بارز في الأشكال والمظاهر، ومن ثمّ فهو سبب عميق من أسباب هدم الأمم، وذلك كلّه دعا القرآن الكريم إلى تكثيف النظرة القرآنية عليه.

والظلم يتخذ أشكالاً ومظاهر شتى:

أ- فقد يتخذ مظهر ظلم الإنسان لنفسه: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ( )، فيقتصر أثره على مردود شخصي فردي، لا يتعدى صاحبه إلى المجتمع من حوله.

ب - وقد يتخذ شكل ظلم الإنسان لأخيه الإنسان: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَاْلِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاْجِهِ( ).

ج - وقد يتخذ هيئة ظلم فئة لأخرى، أو مجتمع لآخر: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( )، وهنا يتألف المجتمع من كيانات متناحرة يسود بينها الاحتراب، ويضرى أوار نار متقدة.

د - وقد يتخذ صورة ظلم السادة مَنْ تحتهم، صعوداً في درجات السلَّم حتى يتسنّم الحاكم نفسه الزمام: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ( )، ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ( ).

وهذه الأشكال الأربعة للظلم - ولاسيما الثلاثة الأخيرة - تجتمع مخرِجة ناتجاً واحداً هو السير بالمجتمع نحو الهوة والهاوية: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ( )، ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ( )، ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ( )، ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا( ).

وفي التعليق على قوله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ( )، يقول الرسول الأكرم : "كلا..، والله.. لتأمرُنّ بالمعروف، ولتنهوُنّ عن المنكر، ولتأخذُنّ على يدي الظالم، ولتأطرُنّه على الحقّ أطراً، ولتقصرُنّه على الحقّ قصراً، أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننّكم كما لعنهم"( ).

وفي مقام آخر يقول أمير المؤمنين علي : "ليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم؛ فإنّ الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد"( ).

وإذا عمَّ الظلمُ أمةً فسوف يُذيب العلاقات والأواصر الحميمة الداخلية فيها؛ مما يجعلها مجتمعاً متفككاً لا يقوى على الصمود أمام قوى التحدي الداخلي، كما لا يقوى أمام الغزو الخارجي، بل.. قد يقف بعض أبناء الأمة مع الغازي لإزاحة الظلم والظالم حين يقدِّرون أنّ خطره أكبر، أو لا أقلّ قد لا يعينون الظالم الداخلي في مواجهة الخطر الخارجي.

ولا يقتصر الظلم على أثره الأخلاقي الفردي في إسقاط صاحبه، بل.. يمتدّ للجانب الاقتصادي (الفردي والجمعي) فيمحقه، ثمّ يدمّر المجتمع كاملاً، وفي هذا يقول أمير المؤمنين : "الظلم يزلّ القدم، ويسلب النعم، ويهلك الأمم"( ).
ومن أمثلة الظلم الاجتماعي ما تفيض به سياسات كثير من المجتمعات والدول اليوم، مثل:

ـ (سياسة التجويع) التي تتخذها بعض الدول تجاه شعوبها (جوّع كلبك يتبعك).
ـ و(سياسة العصا والجزرة) التي تعالج الغير بالترهيب والترغيب.
ـ و(سياسة التلويح بالعصا) ونشر الخوف والرعب.
ـ وسياسة الاستنزاف لمقدرات الأمة وخيراتها في المصالح الشخصية.
ـ و(سياسة الأرض المحروقة) التي تترك الأرض يباباً مقفرة قبل أن يسيطر عليها الغير.
ـ وسياسة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي تقوم بها بعض الجماعات أو الدول.
ـ وسياسة التمييز الطبقي والمناطقي والديني والطائفي والعنصري الذي يحابي فئات اجتماعية على حساب أخرى.
ـ و(سياسة الفوضى الخلاقة) التي تركس الشعوب والمجتمعات والدول في مستنقع الفوضى والاضطراب، زعماً أنّ ذلك يخلق الأفضل، وينتج الأصلح.

يحدّثنا التاريخ أنّه عند استيطان الأوروبيين في القارة الأمريكية قتلوا 120,000,000 هندي أحمر( )، ولما أرادوا إعمار القارة قرروا جلب الزنوج من أفريقية لقوتهم وتحملهم، فبلغ عدد الضحايا من الزنوج في عملية نقلهم إلى أمريكا 100,000,000 شخص( ).

ولما خاض الأوروبيون غمرة الحربين العالميتين: أسفرت الحرب العالمية الأولى [1914ـ 1918م] عن قتل (7,000,000) شخص، وأسفرت الحرب العالمية الثانية [1939ـ 1945م] عن قتل (55,000,000) شخص( ).
وكان من ثمار الحرب العالمية الثانية أن ألقت الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية الحرب قنبلتين ذريتين على (هيروشيما) و(ناجازاكي) - المدينتين اليابانيتين -، فحصدت الأولى ما بين 210,000 إلى 240,000 شخص في يوم واحد من سكان (هيروشيما)!! ( )، وطحنت الأخرى 4000 قتيل، و4000 جريح من أهل (ناجازاكي) ( )!!

وهكذا حظيت اليابان في يومين وفي مدينتين فقط بـ 214,000 إلى 244,000 قتيل!!، غير الذين قُتلوا قبل في المواجهات، أو بعد من أثر الإشعاع، وغير التشوّه الماكث فيهم إلى الآن، والذي طبع بصمته ـ ربّما إلى أبد الدهر ـ على وجوههم.

وإذا كانت تلك لقطة من غرب هذه المعمورة، فقد كانت الصورة في شرقها بائسة حالكة - مثلها - فالاتحاد السوفيتي جعل بلاده سجناً كبيراً، وأرهق شعبه بما سنّه من قوانين ملكية الدولة (الملكية الجمعية)، وقانون "من كلّ حسب طاقته، ولكلّ حسب عمله"( )، "من كلّ حسب طاقته، ولكلّ حسب حاجته"( ).

وقتل إستالين في خطته الخمسية من شعبه في الاتحاد السوفيتي 20,000,000 شخص( ).

ولم تكن صورة العالم الثالث المزدان بالحروب والقتل لأتفه الأسباب أفضل من المعسكرين: الغربي والشرقي، فقد كانت العراق يوماَ تمثّل رابع أقوى جيش في العالم، بلغ عدد أفراده عام 1990م/ 995,000 مقاتل( )، لكنّ صدّام حسين زَجّ به في أتون حروب متوالية مع إيران والكويت، فبلغ عدد قتلى الحرب العراقية الإيرانية (حرب الخليج الأولى) أكثر من 1,000,000 شخص من الطرفين( )، كما قُتل من الجيش العراقي في حرب تحرير الكويت (حرب الخليج الثانية) أكثر من 100,000 جندي( )، وأزهق الكثير من أرواح الأبرياء في سجونه، وأجرى أنهار الدماء في (الانتفاضة الشعبانية) في بلاده، وفي عمليات التطهير العرقي ضد الأكراد، والتي عُرفت باسم (الأنفال)، وفي 2003م تلاشى النظام الحاكم هناك في غضون أيام قلائل بما يجسّد مثالاً حيّاً يوضِّح أثر الظلم في فناء الدول والسلطات، وطويت صفحته السوداء الحالكة.

4ـ الاختلاف والتفرق:

والاختلاف - هو الآخر - هدم لقيمة (الوحدة) التي تجعل المجتمع بنية واحدة متماسكة، لهم وجودهم الجمعي الاجتماعي الصاهر لمركبهم في بوتقة كيان واحد ضمن نظام قيمي واحد، والمغدق عليهم الشعور الجامع بوصفهم مجتمعاً وبنية واحدة، و(لحمة) اجتماعية أو وطنية واحدة.

فالاختلاف والتفرّق من الأسباب التي تقوِّض أركان المجتمعات، وتهدّمها؛ لأنّه يفتّت قوّة المجتمع، ويحيله إلى كيانات متحاربة، ويضيّع جهوده وكفاءاته ضمن الصراع البيني والاحتراب الداخلي، ومن ثمّ تكون قوته الداخلية ضعيفة، فضلاً عن قدرته على مواجهة العدو الخارجي لو تعرّض لغزو.

وهذا ما يجعل القرآن الكريم يحثّ على وحدة الكلمة والتكاتف الاجتماعي، ويحذّر من التمزّق والاحتراب، ويسطّر الأضرار التي سيتلقاها المجتمع من جرّاء تفرّقه أمام عيني المجتمع؛ ليشكّل لنفسه الوقاية وصمام الأمان تجاهها: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ( )، ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ( ).

ويوضّح الرسول الأكرم دور الاختلاف في فناء الأمم واندثارها، فيقول: "لا تختلفوا؛ فإنّ مَن كان قبلكم اختلفوا؛ فهلكوا"( ).

ويفصّل أمير المؤمنين دور التكاتف الاجتماعي في القوة والغلبة، ودور التشتت والاختلاف في انهيار المجتمع فيقول: "وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، .... فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة، ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين، فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم؛ حيث وقعت الفُرقة وتشتتت الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعّبوا مختلفين، وتفرّقوا متحاربين، قد خلع الله عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين"( ).

وتعليقاً على قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ .... وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يقول الشيخ محمد رشيد رضا: "العذاب في هذا الوعيد يشمل الدنيا والآخرة، قال الأستاذ الإمام [الشيخ محمد عبده] ما معناه: أما عذاب الدنيا فهو أنّ المتفرّقين المختلفين الذين اتبعوا أهواءهم، وحكّموا في دينهم آراءهم؛ يكون بأسهم بينهم شديداً، فيشقى بعضهم ببعض، ثمّ يبتلون بالأمم الطامعة في الضعفاء، فتذيقهم الخزي والنكال، وتسلبهم عزة الاستقلال. أما عذاب الآخرة فقد بيّن الله في كتابه أنّه أشدّ من عذاب الدنيا وأبقى"( ).

وهو يشير إلى بعض أسباب الاختلاف، ومنها: اتباع الأهواء، وتحكيم الآراء في الدين، كما يشير إلى بعض نتائج الاختلاف الداخلية والخارجية: فمن نتائجه الداخلية: التناحر الداخلي، والإشقاء الداخلي، والضعف الاجتماعي، ومن نتائجه الخارجية: طمع القوى الخارجية في المجتمع، والخزي والنكال، والاستعمار والسيطرة الخارجية.

ويقول السيّد محمد تقي المدرسي: "إنّ دراسة الأمم رؤية واضحة لأوضاعنا، تلك الأمم تفرّقوا: فإذا كلّ طائفة منهم تتشكل حسب قيم أرضية زائفة - قيم الدم واللغة والإقليم والمصالح العاجلة، وكان تمسّكهم بتلك الروابط أشدّ من تمسّكهم بالدين -؛ فلذلك اختلفوا فيما بينهم؛ لأنّ هذه القيم مختلفة ولا تنتج إلا الاختلاف؛ فابتلوا بعذاب عظيم في الدنيا والآخرة"( ).

وفي هذا النصّ ذكر لبعض الاعتبارات التي توجِد الاختلاف والتمزّق الاجتماعي، وهي - حسب تعبير النصّ -: القيم الأرضية الوضعية التي تقوم على الدم واللغة والإقليم والمصالح العاجلة، وتقف في مقابل القيم السماوية التي جلبها الدين.
وحين ننفذ من مجال التنظير الاجتماعي إلى مجال عرض نماذج لمجتمعات تفرّقت واختلفت؛ فكان مآلها الفناء والاندثار، نقف عند العديد من الأمثلة:

ففي نصّ قرآني حافل بالنماذج يقول الله تعالى:

﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ * وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ * يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ( ).

ويقول أمير المؤمنين : "فاعتبروا بحال وِلد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل ، تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرّقهم، ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم، يحتازونهم عن ريف الآفاق، وبحر العراق، وخضرة الدنيا، إلى منابت الشيح، ومهافي الريح، ونكد المعاش، فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر ووبر، أذلّ الأمم داراً، وأجدبهم قراراً"( ).

وهذان النصّان الثريان الطاميان بالأمثلة يدلان على أنّ مجتمعات الأنبياء والمجتمعات المؤمنة ليست في معزل عن خطر الاختلاف والتفرّق، وأنّ ذلك ليس ثوباً خاصاً لا يلبسه إلا غيرهم من المجتمعات.

وكما أدى الاختلاف إلى فناء وذلة الأمثلة الاجتماعية التي ذكرها كتاب الله العزيز ونصّ أمير المؤمنين ؛ أسهم الاختلاف في فناء الدولة العباسية التي حكمت رقعة كبيرة من العالم  لمدة تنوف على الخمسة قرون من الزمن [132- 656هـ]، [750- 1258م]، لكنّها تشظت إلى دويلات مستقلة متناحرة تقوم ـ أفقياً ـ على أنقاض بعضها، ثمّ امتدّ الخلاف إلى داخل البلاط الحاكم نفسه، فأطمعت فيها المغول التتار، الذين أغاروا عليها ودمروها، وأعملوا السيف في أهلها حتى قيل: إنّ بغداد - وحدها - قُتل فيها 1,800,000 شخص( ).

وحصل الأمر نفسه في الأندلس التي دام الحكم الإسلامي فيها لأكثر من ثمانية قرون [92- 898هـ]، [711- 1492م]، ثمّ تفتّت إلى دويلات متناحرة فلّت شوكتهم، وأضعفت قوتهم، وجعلتهم لقمة سائغة في فم عدوهم، حتى تمّ القضاء على الحكم الإسلامي فيها، وأسدل عليها التاريخ ستار الانتهاء.

 

(1) سورة الشمس، الآية 7ـ 8.
(2) سورة الإنسان، الآية 3.
(3) سورة البلد، الآية 10.
(4) سورة القصص، الآية 58.
(5) الإمام علي بن أبي طالب، نهج البلاغة/ 23، جمع الشريف الرضي، خطبة (صفة خلق آدم).
(6) سورة الأنبياء، الآية 25.
(7) سورة الفرقان، الآية 37.
(8) سورة ص، الآية 12- 15.
(9) سورة الطلاق، الآية 9- 11.
(10) سورة الأنبياء، الآية 6.
(11) سورة الحج، الآية 3.
(12) سورة الأنعام، الآية 6.
(13) سورة غافر، الآية 21.
(14) سورة نوح، الآية 25.
(15) سورة العنكبوت، الآية 28- 29، 34- 35.
(16) سورة الأعراف، الآية 85، 91.
(17) الشيخ الحسن بن شعبة الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول/ 42.
(18) الإمام مالك بن أنس، الموطأ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي 2/ 460، كتاب الجهاد، الباب 13، ح 26، والغلول: الخيانة في الغنيمة.
(19) أبو داوود سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني، سنن أبي داود، م2، ج4، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، ص 122- 123، ح 4339.
(20) الشيخ محمد بن الحسين بن بابويه القمي (الصدوق)، الخصال/ 360، باب السبعة، ح 48. والعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 70/ 350، كتاب الإيمان والكفر، الباب 137، ح 46.
(21) الدكتور غوستاف لوبون، السنن النفسية لتطور الأمم، ترجمة: عادل زعيتر/ 172.
(22) محمد عمارة، الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني/ 338- 339.
(23) مجتبى الموسوي اللاري، الإسلام والحضارة الغربية، تعريب: محمد هادي اليوسفي/ 47.
(24) الدكتور حسين مؤنس، الحضارة: دراسة في عوامل قيامها وتطورها/ 359.
(25) سيّد قطب، في ظلال القرآن 2/ 1091.
(26) سورة المطففين، الآية 1- 3.
(27) مجتبى الموسوي اللاري، الإسلام والحضارة الغربية، تعريب: محمد هادي اليوسفي/ 47.
(28) يوسف أحمد الحسن، (الإيدز ومعضلة مكافحته)، مجلة (الواحة)، العدد الخمسون، السنة الرابعة عشر، صيف 2008م، ص 162.
(29) مصطفى عبد السلام الهيتي، القلق: دراسات عن القلق والأمراض النفسية الشائعة/ 7، وعبد الستار إبراهيم، القلق قيود من الوهم/ 25.
(30) محمد سعيد الجنيدي، القلق في الثقافة/ 17.
(31) القلق: دراسات عن القلق والأمراض النفسية الشائعة/ 9، 17.
(32 ) سورة القصص، الآية 58.
(33) (صِدام الحضارات) مصطلح استخدمه (صامويل هانتنغتون)، وجُعل عنواناً لكتاب له، ومصطلح (الحضارات) يستخدمه فيه بمعنى (الثقافات)، لا بمعنى (الدول).
(34) سورة النحل، الآية 112.
(35) سورة إبراهيم، الآية 32- 34.
(36) سورة هود، الآية 116.
(37) سورة المؤمنون، الآية 33.
(38) سورة سبأ، الآية 34.
(39 ) سورة الأعراف، الآية 32.
(40) في ظلال القرآن 4/ 2467.
(41) سورة القصص، الآية 58.
(42) سورة الإسراء، الآية 16.
(43) سورة سبأ، الآية 19.
(44) سورة الرعد، الآية 11.
(45) سورة سبأ، الآية 17.
(46) الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي 2/ 267- 268، الباب 297، ح 23.
(47) سورة الفجر، الآية 6- 14.
(48) نهج البلاغة/ 290، الخطبة 191.
(49) نهج البلاغة/ 291، الخطبة 191.
(50) أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، صحيح مسلم 8/ 212 (كتاب الزهد والرقائق).
(51) أصول الكافي 2/ 305، الباب 312، ح 6.
(52) علي بن الحسين المسعودي، مروج الذهب 2/ 332- 333.
(53) مروج الذهب 3/ 228.
(54) كريم جبر الحسن، عملية النهوض الحضاري/ 194.
(55) عامر الكفيشي، حركة التاريخ في القرآن الكريم/ 211.
(56) عملية النهوض الحضاري/ 199.
(57) سورة الكهف، الآية 35.
(58) سورة ص، الآية 23- 24.
(59) سورة الحجرات، الآية 9.
(60) سورة القصص، الآية 4.
(61) سورة الأنفال، الآية 54.
(62) سورة القصص، الآية 59.
(63) سورة الأنعام، الآية 47.
(64) سورة يونس، الآية 13.
(65) سورة الكهف، الآية 59.
(66) سورة المائدة، الآية 78- 79.
(67 ) سنن أبي داود، م2، ج4، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، ص 122، ح 4336 و4337.
(68 ) نهج البلاغة، عهد الإمام لمالك الأشتر، ص 429.
(69 ) عبد الواحد بن محمد الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم/ 86، الحكمة 1762.
(70 ) الدكتور عبد الإله بلقزيز، العرب والحداثة: دراسة في مقالات الحداثيين/ 65.
(71 ) الشيخ ناجي أحمد زوّاد، (آفاق منهجية في نظرية الإصلاح)، مجلة (البصائر)، العدد 31، السنة الخامسة عشرة، ربيع 1425هـ/ 2004م، ص 131.
(72 ) الدكتور محمد رشيد الفيل، الهجرة وهجرة الكفاءات العلمية العربية والخبرات الفنية أو النقل المعاكس للتكنولوجيا/ 38، 60.
(73 ) الهجرة وهجرة الكفاءات العلمية العربية والخبرات الفنية أو النقل المعاكس للتكنولوجيا/ 223.
(74 ) منير البعلبكي، موسوعة المورد العربية 2/ 928.
(75 ) اقتصادنا/ 217.
(76 ) اقتصادنا/ 217، والدكتور علي جريشة، ومحمد الزيبق، أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي/ 109.
(77 ) معتصم الغنيمي، (عراق الحرية والتعددية)، مجلة (البصائر)، العدد 31، السنة الخامسة عشرة، ربيع 1425هـ/ 2004م، ص 160.
(78 ) مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، الموسوعة العربية العالمية 16/ 159.
(79 ) (عراق الحرية والتعددية)/ 140.
(80 ) الموسوعة العربية العالمية 16/ 173.
(81 ) سورة الأنفال، الآية 46.
(82 ) سورة آل عمران، الآية 105.
(83 ) صحيح البخاري، م1، ج 3، ص 158، (باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة).
(84 ) نهج البلاغة/ 296- 297، الخطبة 191.
(85 ) الشيخ محمد رشيد رضا، تفسير المنار 4/ 45- 46.
(86 ) السيّد محمد تقي المدرسي، من هدى القرآن 1/ 629.
(87 ) سورة المؤمنون، الآية 44ـ 53.
(88 ) نهج البلاغة/ 297، الخطبة 191.
(89 ) عملية النهوض الحضاري/ 39.