الإمام الحسين (عليه السلام ) وثقافة الحياة الاجتماعية

اقرأ للكاتب أيضاً

كل من قرأ عاشوراء وواقعة كربلاء، وما جرى فيها من أحداث شكّلت ملحمة بكل ما لكلمة الملحمة من معنى، سواءً الموافق للحسين في مسيرته أم المخالف، حكم بدون تردد أن واقعة كربلاء شكّلت عنوان التضحية، وبعبارة أخرى: قد يختلف البعض مع الحسين في مسيرته، وتكتيكه، وأهدافه، لكن الجميع يتفق أنه ضحى بكل شيء بدءاً بأصحابه، ومروراً بأولاده، ونسائه، وأخوته، وانتهاءً بنفسه.


لكن في الوقت نفسه؛ يغفل الكثير عن أبعاد التضحية التي قدمها الحسين ، التي تعني تجاوز الذات بكل ظلالها ومتعلقاتها، للوصول إلى الحقيقة، حيث يرونها في بعدها السياسي ـ العسكري، ويستنتجون منها قيم الشجاعة، وصولات البطولة، ومهارات الفروسية العربية، خصوصاً عندما يتذكرون حملته على الميمنة ثم الميسرة، وأخرى عند انقضاضه على هذا أو ذاك.


هذا؛ في حين أن تضحية الحسين لها صولات وجولات تتجاوز البعد العسكري وزمن كربلاء، لتصل اليوم في القرن الواحد والعشرين وتجول في عولمة العالم لتقدم له أسمى معنى للحياة الإجتماعية، في الوقت الذي دَمّرت فيها قيم العولمة - وبالذات الثقافة الأمريكية - أسس الحياة الاجتماعية؛ وذلك بما أنتجته من ثقافة تؤسس وتشرّع للذات ركوب الشر، والمصلحة الذاتية؛ خصوصاً إذا عرفنا أن أي مجتمع من المجتمعات إنما تتشكل صورته الإجتماعية من عدة عناصر؛ مادية ومعنوية. المادية منها تصنعها التكنولوجيا وآليتها، في حين أن المعنوية تصنعها ثقافة المجتمع، التي يولدها فلاسفته ومثقفوه ومفكروه.


والثقافة الأمريكية اليوم هي صنيعة الفلسفة الواقعية؛ مع ملاحظة أن الواقعية تيار عريض يحتض في داخله عدة شعب فكرية، وما نعنيه بالتحديد هي الواقعية الجديدة، التي أسّسها (رالف بارتون بيري)، وكما يقول مؤرخ الفلسفة المعاصر، الأمريكي (اندريا ريك) أن الواقعية الجديدة تبدو أنها الفلسفة السائدة في أكبر معقل للحضارة اليوم (أمريكا)، وبالتالي فإن فهمنا لها يعني توسعاً في فهمنا للفكر الأمريكي.


تدّعي هذه الفلسفة أن القيم في الحياة تنشأ من الإهتمام، أي "أن الشيء الذي تطيب رؤيته وليس الشيء الذي يحسن اعتقاده هو الذي له قيمة جمالية"، وبعبارة أخرى، كل ما هو محل إهتمام بالنسبة ليّ تكون له قيمة، وما ليس بمهم ليس له قيمة، وبالتالي: إهتمامي بصلة الأرحام اضفى على صلة الأرحام القيمية، وكذا اهتمامي بأولادي هو من أضفى على رعاية الأولاد وحسن تربيتهم قيمة.


ولنتخيل الحياة بمنظار هذه النظرية، سنراها خالية من قيم موضوعية نسعى لاعتناقها، بل القيم هي ذواتنا وما تهواها، بل القيم في صيرورة دائمة لا تعرف الثبات، فاليوم اهتمُ بهذا اللون من الحياة أو النشاط، وفي الغذ يتغير إهتمامي فتتغير على أساسه قيمي، فمن اهتم اليوم بالوفاء والصدق؛ عندما تتغير إهتماماته تتغير قيمه، بحيث يتحول الصدق من أمر مرغوب ومقدس إلى أمر منكر ومدنس.


والذي يبدو أن مثل هذا اللون من التفكير مؤثر في أوساط كثيرين في مجتمعنا، حيث تراه يقدم على أعمال ويحجم عن أخرى تحت نفس المبرر، أي أنه يرى نفسه في هذا العمل، أو لا يرى نفسه في الآخر، وهذا يعني أننا ندور في حلقة الذات، نبدأ منها؛ حيث هي التي توّلد القيم، وننتهي إليها؛ حيث تشبعْ في اهتماماتِها.


من هنا نعرف عظمة تضحية الحسين ، الذي جسّد عنوان تجاوز الذات، وجعل معيار القيم، ومحفزات السلوك والعمل أمر آخر غير الذات، بل الوحي والعقل، ألا تراه يقول: (لم أخرج أشراً ولا بطراً، بل خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي)، أليس موقفه من يزيد كان موقف الوحي والعقل، وبعبارة أخرى كان محور حركة الحسين هو الحق، بما لكلمة الحق من معنى وأبعاد وظلال، حيث يَستبطن معنى الحق الإعتراف والإلتزام، فمن إعترف بأن الله ـ سبحانه ـ حقٌ، إلتزم تجاهه بواجبات الألوهية والربوبية، ومن إعترف بالآخرين، التزم تجاههم بكل حقوق والتزامات الآخر.

وهذا يمثل نقلة في صعيد الحياة الاجتماعية، تتجاوز المزاجية والذات والعواطف الآنية، لتشّكل قيماً تعتمد على الوحي والعقل .

ولنا ، والحال هذه ، أن نتصور حياتنا الاجتماعية من خلال هذه النظرية، حيث يلتزم كل فرد تجاه الآخر بمجموعة من الحقوق والواجبات، فالأب تجاه أبناءه، والزوج تجاه زوجته، والمتنافسين في الميادين الإجتماعية تجاه بعضهم البعض، والأقارب في علاقاتهم العائلية.


وبهذا يكون الحسين خير سفينة لنجاة حياتنا في جميع أبعادها، فالسلام عليك يا أبا عبد الله، أشهد أنك جاهدت في سبيل الله، وبذلت مهجتك دونه، فالسلام عليك يوم ولدت ويوم استشهدت، ويوم تبعث حياً.

عالم دين ( الكويت )