12

وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً

أ . بدر الشبيب *

الابتلاء سُنّة ربانية أجراها الله تعالى على عباده، يستوي في ذلك المؤمن والكافر والصالح والطالح. قال تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) وقال: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ). وعن الإمام علي قال: أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ اللَّه قَدْ أَعَاذَكُمْ مِنْ أَنْ يَجُورَ عَلَيْكُمْ، ولَمْ يُعِذْكُمْ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيَكُمْ، وقَدْ قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ.

فهذه الآية التي استشهد بها الإمام علي تأتي مؤكِّدة لسُنة الابتلاء التي ينبغي أن تكون حاضرة دائما في أذهاننا ونفوسنا. والابتلاء قد يكون بالشر، وقد يكون بالخير. والمقصود بالشر هنا الشر النسبي، إذ لا وجود للشر المطلق في عالم الوجود. ففي الرواية عن الإمام الصادق أن أمير المؤمنين مرض فعاده قوم، فقالوا: كيف أصبحت يا أمير المؤمنين ؟ فقال : أصبحت بِشَرّ. فقالوا : سبحان الله  هذا كلام مثلك! فقال: يقول الله تعالى: "وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً" فالخير: الصحة والغنى، والشر: المرض والفقر ابتلاء واختبارا.

فالابتلاء مدرسة تهدف إلى تأكيد ارتباط الإنسان بالله تعالى، وتربيته على التخلق بملكة الصبر في مواجهة المصاعب والشدائد كي تسمو نفسه، ويحقق إنسانيته التي أرادها الله في أكمل صورها. يقول تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ . أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). ومن هنا نفهم بداية الآية التي نحن بصددها وختامها، حيث تقول: (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ). فالابتلاء واقع بين حقيقتين، هما: الموت كنهاية حتمية لكل نفس في هذه الحياة، وثانيا، ما عبّرت عنه آية أخرى: (إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى). واستيعاب هاتين الحقيقتين له أهميته العظيمة في القدرة على التعامل مع البلاء بروح إيجابية صامدة.

قد يُبتلى الإنسان في نفسه أو في ماله أو في أهله أو في ولده أو في جاهه أو في علمه أو في جماله أو في ذكائه، أو في أي شيء آخر ذي علاقة به. فقد تكون لدى الإنسان مثلا قدرات عقلية علمية فائقة، يمكنه أن يوظفها لصالح البشرية أو لتدميرها، فيكون هذا محل ابتلائه: هل ينجح أو يفشل؟. وقد يُبتلى بالمرض فيرى ربه حقيقا بالحمد على كل حال، كما قال الإمام زين العابدين : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا لَمْ أَزَلْ أَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنْ سَلاَمَةِ بَدَنِي، وَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَحْدَثْتَ بِيْ مِنْ عِلَّة فِي جَسَـدِي.

فمسألة الابتلاء اختبار للإرادة والقدرة على اختيار الموقف الصحيح تجاهها: (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ).

وعن الإمام الصادق : تُؤْتَى بِالْمَرْأَةِ الْحَسْنَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّتِي قَدِ افْتُتِنَتْ فِي حُسْنِهَا فَتَقُولُ يَا رَبِّ حَسَّنْتَ خَلْقِي حَتَّى لَقِيتُ مَا لَقِيتُ فَيُجَاءُ بِمَرْيَمَ فَيُقَالُ أَنْتِ أَحْسَنُ أَوْ هَذِه قَدْ حَسَّنَّاهَا فَلَمْ تُفْتَتَنْ. ويُجَاءُ بِالرَّجُلِ الْحَسَنِ الَّذِي قَدِ افْتُتِنَ فِي حُسْنِه فَيَقُولُ يَا رَبِّ حَسَّنْتَ خَلْقِي حَتَّى لَقِيتُ مِنَ النِّسَاءِ مَا لَقِيتُ فَيُجَاءُ بِيُوسُفَ فَيُقَالُ أَنْتَ أَحْسَنُ أَوْ هَذَا قَدْ حَسَّنَّاه فَلَمْ يُفْتَتَنْ. ويُجَاءُ بِصَاحِبِ الْبَلَاءِ الَّذِي قَدْ أَصَابَتْه الْفِتْنَةُ فِي بَلَائِه فَيَقُولُ يَا رَبِّ شَدَّدْتَ عَلَيَّ الْبَلَاءَ حَتَّى افْتُتِنْتُ فَيُؤْتَى بِأَيُّوبَ فَيُقَالُ أبَلِيَّتُكَ أَشَدُّ أَوْ بَلِيَّةُ هَذَا فَقَدِ ابْتُلِيَ فَلَمْ يُفْتَتَنْ.

أديب وكاتب وباحث في علوم اهل البيت عليهم السلام