13

فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

أ . بدر الشبيب *

هل هناك من يتمنى الموت حقيقة؟ وأعني بذلك التمني الواعي المتأتي من المعرفة البصيرة بالموت وما بعد الموت، وليس تمني المتبرم من الحياة الذي قد يُقدم على الانتحار دون إدراك للعواقب الوخيمة.
الجواب: نعم. وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). فإحدى علامات أولياء الله أنهم یتشوقون للموت، لأن الولّي، كما قال صاحب تفسير الميزان، " يحب لقاء وليّه. ومن أيقن أنه ولي لله وجبت له الجنة ولا حاجب بينه وبينها إلا الموت أحبّ الموت وتمنى أن يحل به فيدخل دار الكرامة ويتخلص من هذه الحياة الدنيّة التي ما فيها إلا الهم والغم والمحنة والمصيبة". 

وهذا يجعلنا أقرب لفهم قول الإمام علي حين يُقسم صادقا: واللَّهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّه. وكذلك قول ابنه الإمام الحسين واصفا أصحابه، واستعدادهم للتضحية دونه: "يَسْتَأْنِسُونَ بِالْمَنِيَّةِ دُوني اسْتِئْناسَ الطِّفْلِ بِلَبَنِ أُمِّهِ". فقد دخل هؤلاء في زمرة أولياء الله، فاستعذبوا الموت الذي يجعلهم (فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ . فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).

أن تكون من أولياء الله، فذاك أمر لا يتحقق اعتباطا، ولا يحوزه إلا ذو حظ عظيم. يقول تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ . لَهُمُ الْبُشْرى‏ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). فالمسألة تحتاج إلى عقيدة صافية خالصة لله، وإلى حيازة ملكة التقوى لتكون حاضرة في كل الأحوال والأزمان والظروف، فلا تغيب في موقف من المواقف. يقول علي : إِنَّ تَقْوَى اللَّه حَمَتْ أَوْلِيَاءَ اللَّه مَحَارِمَه، وأَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَه، حَتَّى أَسْهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ وأَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ. فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ والرِّيَّ بِالظَّمَإِ، واسْتَقْرَبُوا الأَجَلَ فَبَادَرُوا الْعَمَلَ، وكَذَّبُوا الأَمَلَ فَلَاحَظُوا الأَجَلَ. 

وفي الرواية عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه : مَنْ عَرَفَ اللَّه وعَظَّمَه مَنَعَ فَاه مِنَ الْكَلَامِ، وبَطْنَه مِنَ الطَّعَامِ، وعَفَا نَفْسَه بِالصِّيَامِ والْقِيَامِ. قَالُوا: بِآبَائِنَا وأُمَّهَاتِنَا يَا رَسُولَ اللَّه؛ هَؤُلَاءِ أَوْلِيَاءُ اللَّه؟ قَالَ: إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّه سَكَتُوا فَكَانَ سُكُوتُهُمْ ذِكْراً، ونَظَرُوا فَكَانَ نَظَرُهُمْ عِبْرَةً، ونَطَقُوا فَكَانَ نُطْقُهُمْ حِكْمَةً، ومَشَوْا فَكَانَ مَشْيُهُمْ بَيْنَ النَّاسِ بَرَكَةً. لَوْلَا الآجَالُ الَّتِي قَدْ كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ لَمْ تَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ خَوْفاً مِنَ الْعَذَابِ وشَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ.

وقد تحدث الإمام علي عن أسلوب تفكيرهم المختلف ونمط حياتهم المتميز، فقال: إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّه هُمُ الَّذِينَ نَظَرُوا إِلَى بَاطِنِ الدُّنْيَا إِذَا نَظَرَ النَّاسُ إِلَى ظَاهِرِهَا، واشْتَغَلُوا بِآجِلِهَا إِذَا اشْتَغَلَ النَّاسُ بِعَاجِلِهَا. فَأَمَاتُوا مِنْهَا مَا خَشُوا أَنْ يُمِيتَهُمْ، وتَرَكُوا مِنْهَا مَا عَلِمُوا أَنَّه سَيَتْرُكُهُمْ.

ولأن هؤلاء قدّموا للموت، وانشغلوا بما بعده، فإنهم يأنسون به حين يحل عليهم ضيفا. يقول الإمام زين العابدين : واجْعَلْ لَنَا مِنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ عَمَلًا نَسْتَبْطِئُ مَعَه الْمَصِيرَ إِلَيْكَ ، ونَحْرِصُ لَه عَلَى وَشْكِ اللَّحَاقِ بِكَ حَتَّى يَكُونَ الْمَوْتُ مَأْنَسَنَا الَّذِي نَأْنَسُ بِه ، ومَأْلَفَنَا الَّذِي نَشْتَاقُ إِلَيْه ، وحَامَّتَنَا الَّتِي نُحِبُّ الدُّنُوَّ مِنْهَا.

أما غيرهم، فكما قال تعالى: (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

أديب وكاتب وباحث في علوم اهل البيت عليهم السلام