نظرة جديدة لكلام الإمام علي (ع)

 

بقراءة صفحة أمير المؤمنين التاريخية ، نكون أمام كم هائل من المعارف والعلوم التي نفخر بها في شتّى المجالات ، فكلماته كانت مداداً علمياً زاخراً لكثير من الكتّاب غير الإسلاميين ، وكانت محل استئناسهم الأدبي وركونهم المعرفي ، فضلاً عن عطاءات كلماته التي فجرها علماء المسملين وصاغوا بها ملامح الفكر الإسلامي الأصيل ليتّخذ حركته في الحياة ،

ونحن بهذا نجد أنفسنا أمام مسئولية عظيمة هي تبليغ هذه المعارف النورانية للبشرية ، فماذا عسانا أن نفعل ونحن أمام أرضية لديها القابلية للإعمار الفكري ، ورصيد لا متناه من المشارق المعرفية من جانب آخر.. إنها القوّة ومقدمات القوّة ، إنه الهدف ومتطلبات النجاح ، فلا نحتاج إلإ إلى أن نطير بهمتنا كما يطير الطير بجناحيه لإعمال تفكير الإنسان وبنائه بكلام أمير المؤمنين ، الذي طالما أحيى نفوساً هامدة ، و حملها نحو الأمان ..

يقول البرفسور الأمريكي محمد كري لكنهاوزن شارحاً طريق تعرّفه على الإسلام : (لقد أهداني في بلدي أحد أصدقائي كتاباً بالعربية وكانت عندي ترجمة للكتاب وإن كانت ناقصة ، وذات إشكالات كثيرة من الناحية الأدبية والبلاغية ، يتحدث هذا الكتاب عن شخصية ذات فضائل ومناقب كالشجاعة والقوّة والكمال والعلم و الصدق والجهاد و رعاية اليتامى والمساكين ، ولعل القضية التي استوقفتني كثيراً هي أن هذا الشخص الفذّ كان مظلوماً أيضاً ! (صبرت وفي العين قذى) . هذا الكتاب هو الذي جذبني إليه للإستزادة من المعرفة الإلهية ومن ثم أصبح سبباً لتحوّلي للإسلام والتشيّع وهو كتاب نهج البلاغة).

ففي الوقت الذي يبذل فيه بعض الأديان والمذاهب الأموال الطائلة لترويج ما يؤمنون به في الدول الفقيرة ، نجد أن كلام أمير المؤمنين علي يقوم بدور التبليغ بمجرّد قراءته والتأمل فيه ، فكلماته هي التي تحوّل الناس وتغيّر ما في أنفسهم لكي يغيّر الله ما بهم كما قال تعالى ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد : 11].

و نلاحظ كذلك أن هنالك فجوة في بعض المذاهب التي أنكرت كلام الإمام علي وأعرضت عنه ، أنها تبحث عن البديل بشكل دائم ، وكما يبدوا لي أن لهث بعض هؤلاء ممن لا يوالي الإمام علي وراء بعض التقنيات السلوكية الحديثة كالبرمجة اللغوية العصبية وغيرها هو لملئ ذالك الفراغ الذي حصل عندهم جرّاء إلغائهم لكلمات الإمام ، ومن يطالع ما تحتويه هذه التقنيات سيجد أن بها قواعد تتطابق مع كلمات الإمام ، بل أن كلمات الإمام أوسع منها وأكثر أثراً ، لسبب بسيط هو لأنها تمثّل الحق الذي لا لبس فيه ، وقد نالت تلك الدرجة بوسام من أعلى جهة بشرية على وجه الأرض وهي الرسول الأعظم الذي قال فيه (علي مع الحق والحق مع علي).

ينبغي أن نفكر كثيراً في الأسلوب الذي يجب أن نطرح به كلمات الإمام للمجتمع ، ليأخذ مأخذه في التأثير الإيجابي على أسلوب التفكير وعلى سلوكيات الناس ، وصولاً بهم إلى حال أفضل وحياة أكثر تنظيماً ومعنى ، فلم يعد يجدي الأسلوب القديم في تلقي بعض المعارف ولم يعد يتقبل المجتمع الإقبال على مجرّد كتاب بحالة سردية وبطباعة رديئة ، فلعل التفكير في إعادة التبويب لنهج البلاغة بصيغ متعددة وفق الحاجات الراهنة سيعطي أثراً وتظهيراً جيداً في هذا المجال ، فكما رتّبه الشريف الرضي ترتيباً بلاغياً وأسماه (نهج البلاغة) ، يمكن أن يصاغ ولو جزء منه لنهج الحياة ونهج السلوك ونهج النجاح ونهج المعرفة وغيرها ، علماً بأن هنالك بعض المحاولات في هذا الاتجاه مثل (نهج الكفاح) إلا أننا نحتاج إلى جهود تشمل كافة مناحي الحياة ، وتحاكي متطلباتنا الراهنة.
وهناك أسلوب آخر يمكن أن يدفع بهذا الطريق وهو صياغة دورات محددة وقتاً وعدداً وعبر أسلوب يستخدم التقنيات الحديثة في توصيل الفكرة للناس ، عبر تأسيس معاهد مختصّة لهذا الأمر ، إننا نجد على سبيل المثال شخصاً مثل دايل كارنيجي الذي كتب مجموعة كتب في مجال الخطابة والأصدقاء والقلق ، بعد أن مات قامت مجموعة ممن تتبنّى نهجه وإرشاداته السلوكية بإنشاء مركز خاص للكتابة في مختلف الشئون الحياتية طبقاً للقواعد التي وضعها دايل كارنيجي رغم محدوديتها ، وقد فعلوا ذلك رغم أنه مات منتحراً وهو صاحب كتاب (دع القلق وابدأ الحياة).

أمّا الإمام أمير المؤمنين ولا قياس بالشخصين وإنما هو عرض مفارقة لأنفسنا .. فالإمام علي الذي ترك لنا كمّاً هائلاً من المعارف والتوجيهات والقواعد العامّة التي تطبق على تفريعات عديدة في جميع جوانب الحياة ، وهو الإمام الذي نال شهادة إلتصاقه بالحق وهي العصمة بمعناها الحقيقي من رسول الله ، كيف لا ينال هذا الإهتمام ، وهذا الاهتمام من أجل أنفسنا ومن أجل تقدمنا في حياتنا الشخصية والاجتماعية .. وهو (عليه السلام) الذي مات مستشهداً في سبيل كل ما أعطاه