أم الحمام : الشيخ الحرز « الإنسان الحركة والجمود »

شبكة مزن الثقافية
سماحة الشيخ سعيد الحرز حفظه الله

تحدث سماحة الشيخ سعيد الحرز حفظه الله  في كلمة الجمعة 8 / صفر المظفر / 1426هـ  في مسجد الإمام الحسن بأم الحمام وجاء حديثه تحت عنوان (الإنسان الحركة والجمود ).


في دعاء مكارم الاخلاق

 ( اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَلا تَرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَةً إِلا حطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَها وَلا تُحْدِثْ لِي عِزّا ظاهِرا

إِلا أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً باطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِها)


   ُُأُبتلي الناس منذ القدم بمفهومين متعارضين يؤدي كل منهما إلى نتيجتين خاطئتين وإن كانتا متغايرتين ، أهمل الناس مفهوماً ثالثاً .

1 - المفهوم الأول هو مفهوم الجبر والذي كان رواده بعض الفلاسفة ، هذا المفهوم الذي يشل حركة الإنسان ويُقعده عن تحمل أي مسؤولية حيث إن ما يقوم به ليس الأ حركات مجردة عن الإرادة ومن ثم فلا معنى أن يكون الإنسان مسؤولاً عن أفعاله فضلاً عن حياته وحضارته .

ولقد تسربت هذه الفكرة الخطيرة إلى الأمة الإسلامية حتى وجدنا من يستدل بقوله تعالى ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) سورة الصافات بمعنى أن الله كما خلق الإنسان خلق فعله فكل أعمال البشر من خير وشرّ من خلق الله وإن الإنسان مجرد من المسؤولية ، وليس معنى ذلك إلا سقوط مبدأ الثواب والعقاب الذي هو عقلي قبل أن يكون شرعياً .

وهولاء قد تغافلوا عن الآية السابقة لهذه الآية والتي تحدد المراد من قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ  حيث يقول الله تعالى قبل هذه الآية ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ - وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (95- 96) سورة الصافات  ، فألآية واضحة في الدلالة على أن كلمه  ماتعلمون هو هذه الأصنام التي ظلوا عليها عاكفين يعبدونها وليست هي إلا مخلوقات لله فكيف تعبد من دونه وهذا هو وجه الاستنكار القراني .

وراح البعض يستدل بهذه المقولة تارةً بحديث الطينة وتارةً بنفي التحسين والتقبيح العقليين و تارةً ثالثة بإيجاد مخرج عقيم بفلسفة الجبر وذلك من خلال نسبة حركة الإنسان إلى الجبر ضمن سلسلة مترابطة ، بمعنى أن الإنسان يتحرك بأرادته ظاهراً ولكنه في حقيقة الأمر أن تلك الإرادة عوامل آخرى قسرية وما إرادته إلا مظهراً لتلك العوامل.

 فهو يشرب الماء لإنه أراد وهو أراد لآنه عطشان ، وهو عطشان لأن كبده قد أصبح حاراً ، وكبده أصبح حاراً لانه مشى تحت حرارة الشمس منذ مدة وهو مشى لانه أراد ذلك وهو أراد ذلك لعوامل خارجية أخرى ، حتى تتسلسل المراتب لتعود إلى أصل خلقته وبالتالي فهو يدور في حلقةٍ ملؤها الجبر . [1] 

وهو هنا - أي الإنسان - لا يعدو كونه مستجيباً للعوامل المحيطة منفعل فيها غير فاعل فيها ، فالضروف هي الحاكمة وبالتالي ستجد دائماً للسارق بيريراً و للزاني تبريراً وللظالم تبريراً حيث أنهم جميعاً ضحايا تلك العوامل المؤثرة ، وما ثقافة الشعوذة والأعمال السحرية والنفث في العُقد إلا استجابة لهذه الثقافة وتبرير لها .

2 - المفهوم الثاني هو مفهوم التفويض ذلك المفهوم الذي يدعي أن الله خلق الكون وتركه تعبث فيه أيادي البشر من ظلم وقهر واستعباد فجاء فرعون وقال أنا ربكم الأعلى وجاء قارون ليقول إنما أوتيته على علم عندي وجاء الأموي ليقول أنه قميص ألبسنيه الله ، إنهم يعتقدون أنهم يستطيعون أن يفعلوا أي شيء ، أو على الأقل أن يجوز لهم فعلُ أيَّ شيء  ، وهذا هو طغيان الأنا والإعتداد بالذات التي جابهها الإسلام وأهل البيت أيما مجابهة .

3 - المفهوم الثالث هو ذلك المفهوم الذي بشر به أهل البيت  وذلك بقولهم وفعلهم يقول الإمام الصادق : ( لأجبر ولا تفويض ولكن أمرَّ بين أمرين ) [2]  وهذا المفهوم الثالث لا يتضمن الحيادية بينهما بل هو موقف مستقل يمتلك المقدمات السليمة و الصحيحة والمتوافقة من فطرة الله للإنسان والأشياء ، إنه ليس وقوفاً على التل بل هو الأخذ بالجانب الإيجابي من كلا المفهومين غير المتوازنين .

فالجبر كمفهوم تسلم بوجود قانون كوني مهيمن على العالم ويقوده أما الجانب الايجابي في التفويض هو اعتقاده بحرية الإنسان وقدرته على الأختيار ، فهذه المزاوجة تخلق حالة من التوازن عند الإنسان إذ أننا نعلم ونلاحظ من خلال تجارب الحياة أن الإنسان مهما تبنى من مقولات مختلفة فهو لايخرج عن إنسانيته سواءَّ كان في جانب الجبر أو جانب التفويض فما أكثر العلماء الذين يقولون بالجبر وهم يعيشون حالةً من الزهو والغرور والاعتتداد بالنفس أو على الأقل تنتابهم هذه الحالات في بعض الأوقات .

وكذا ما أكثر الذين يغترون بأنفسهم ويتباهون بقدراتهم ويعتقدون قادرون على فعل أي شي تأتيهم حالات هم في غاية البأس والقنوط .

                                              هي النفس إن جاشت تجيش عواطفاً
                                                                       وتجمع أهواءً وطغو أمانيا
                                              وإن ركدت خلت العوالم ركداً
                                                                     كأن السماء سدت عليها المجاري

من هنا احتاج الإنسان في كلتا الحالتين إلى اللجوء إلى قوة حركته في الصعود والنزول فيعلم أنه في حالة قوته هناك قوة قاهريةُ قوته يمكن  أن تسلبه مافيه ومن ثم عليه أن يكون مشتركاً فيما فيه من قوة ، وإذا كان في حالة ضعف يُدرك أن هناك قوةً قادرةً على إعانته وإخراجه مما هو فيه ، ولهذا المؤمن يُدرك حقيقة قدرته كإدراكه إلى حقيقة ضعفه ، ولخلق حالة من التوازن يدعو الله أن يهبه القوة والقدرة ولكن ليست القدرة التي تزرع فيه الطغيان وإنما تعينه على الدنيا وتوازنه مع المحيط ولتحقيق هذا التوازن يقول

 ( اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَلا تَرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَةً إِلا حطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَها وَلا تُحْدِثْ لِي عِزّا ظاهِرا

إِلا أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً باطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِها)

[1] مبادى الحكمة صفحة 236
[2] ميزان الحكمة ج2 صفحة 7