حي على الإخلاص والحب

  • الدين و السعادة

إن الإنسان محتاج إلى الدين في حياته ليؤمن مستقبلا سعيدا يمتاز باللانهاية و الخلود، و كل إنسان لم يعمل بالدين فإنه خاسر و تعيس و ذو مستقبل مظلم لا محالة، كما قال الله سبحانه في كتابه الكريم عن الأكثرية الخاسرة: (والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر)، فإذا كانت الأكثرية خاسرة فإنه يجب على الإنسان التميز، و ألا يغفل ليذوب في الغافلين الغير متميزين و إلا صار منهم، و من المعلوم أن التميز في أي شيء أنى يكن مكلف، سواء كان هذا التميز ماليا أو علميا أو فنيا أو غيره، فكيف إذا كان هذا التميز في شيء متعب يعاند فيه الإنسان نفسه و هواه و ما تتفاعل معه لذائذه و هو التميز في الدين، إذن فالتميز عن الخاسرين أمر يتطلب جهدا.
 
إن الحياة في الآخرة و التجهز إليها في الدنيا هما كالذي أرغم على سفر في الغد و لكنه لازال اليوم في بلده، و بذلك وجب عليه أن يأخذ من الزاد و العتاد ما يؤهله ليعش مرتاحا في البلد التي سوف يسافر إليها، و إن لم يفعل فإنه سوف يحيا معيشة ضنكا في تلك البلد. أما اليوم فقد يكون ذلك المسافر في الدنيا، و أما غدا فهو ماض و مسافر إلى الآخرة، فلا معيشة طيبة فيها إن لم يحمل زاده من الدنيا مما يلزم من الطعام و المال، و أما الطعام و المال فهما العمل و الدين، لكن المخيف هو أن هذا السفر بلا موعد معلوم. و المطلوب في أداء عمل مطلعٌ و مركزٌ آمره على باطن القلب هو ماهية أداء هذا العمل و مقصوده و مبتغاه لكي يبني سعادة الحاضر و المستقبل، و إن أهم شيء في ماهية هذا العمل هو الهدف منه و الإخلاص فيه.

  • حي على الإخلاص و الحب

الإخلاص هو أن يكون العمل بقصد التقرب إلى الله تعالى و ليس بهدف شيء آخر يكون من هذا العمل، كأن يعطي الإنسان السائل بهدف التخلص من إلحاحه، أو أن يكون الهدف من الصلاة هو الاستعراض للآخرين بحسن الأداء في الصلاة.      

إن أهم شيء في العمل هو الإخلاص لله سبحانه و تعالى في هذا العمل، لأن الله سبحانه عالم بكل ما يخفيه الإنسان من أحاسيس و خواطر، و يعلم ما هدف الإنسان من العمل، فهو الذي (يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور)، إن الله مطلع عليك أيها الإنسان في كل ما تعمل و كل ما تفكر، و عدم إخلاصك في العمل ليس خافيا عليه، و هو سبحانه لا يحب عملا لا يراد به التقرب إليه سبحانه.

و مما يدفع إلى عدم الإخلاص في العمل لله هو حب الإنسان للمدح و الحمد على عمله من قبل الناس، فيطيل في صلاته أحيانا و يتصدق أخرى بهدف أن يمدحه الناس و خشية أن يذموه، و ما مدح الناس بالنسبة لثواب الله إلا شيء تافه و حقير، و ما ذمهم بالنسبة إلى عقاب الله إلا الشيء الحقير.           

اعلم أيها الإنسان أن عليك أن تخشى من هو مطلع و عالم بسريرتك، و هو الذي ليس بمقدورك خداعه و غشه، إنه هو وحده القادر على أن لا يؤملك مبتغاك و هو القادر على تأميلك إياه. إن الإخلاص في العمل شيء نادر لا يناله إلا المحب لله و من وفقه الله لنيله، و المحب لله ينال درجة الإخلاص لما ملأ قلبه من حب الله سبحانه، فالمحب مخلص دائما، فكما أن المحب لصديقه مخلص له، فكذلك فإن المحب لله مخلص لله سبحانه و تعالى، و نتيجة لعظمة الإخلاص فإنه نادر و لا يوفق إليه إلا القليل من المحظوظين ممن قدموا حب الله على حب المخلوقين و حب مدحهم و ثنائهم.           

اعلم أيها العزيز أن الله لا يتقبل إلا من المخلصين الذين لا يريدون من العمل إلا حب الله و رضاه، و أما الأعمال الأخرى التي لا يسودها الإخلاص فإن الله لا يقبلها أبدا، لذلك يقول سبحانه: (و ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)، و يقول ص: (لا تهتموا لقلة العمل، و اهتموا للقبول).           

كما أن الإخلاص لله من الصدق، حيث يكون العبد كاذبا إذا قال و عمل بما ليس في قلبه، و من حب الله الإخلاص له، كما أن من حب الصديق الإخلاص له، و أنه لا ينال درجة الإخلاص و هو الصدق إلا من أحب الله سبحانه و تعالى، و لا يدخل حب الله إلا قلوب الصادقين أي المخلصين الذين أخلصوا لله، و هذا هو معنى الدعاء عن أمير المؤمنين: (يا حبيب قلوب الصادقين). و كما يقول الحديث الشريف: (لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل و سجوده، فإن ذلك شيء قد اعتاده، و لو تركه استوحش لذلك، و لكن انظروا إلى صدق حديثه و أداء أمانته) و إن الإخلاص من الصدق أصلا، لذلك فإن الصلاة الاعتيادية الخالية من الإخلاص و الصدق لا تؤسس قرينة على الإيمان و التميز عن الكثرة الغافلة.
 
لو أن الإنسان قام بما يريد الله منه كما يريد الله تماما، أي مع الإخلاص لحصل هذا الإنسان على نتيجة الأعمال المعنوية و النفسية و التي لها أثرها الدنيوي كحركة جوهرية على المستوى البعيد علاوة على الأخروي، ذلك أن شخصيته النفسية سوف تبنى و تتكامل، و سوف يكون لعمله العبادي أثر ملموس على القلب، و سوف يبني جدار قويا في قلبه عاصما له عن الزلل، كل عمل مخلص فإنه قطعة جديدة من البناء تضاف إلى صرح عظيم يتكون في نهاية المطاف من الحب الإلهي العاصم عن معصية المحبوب، إضافة إلى ذلك فإن قدرته على تحمل البلاء سوف تقوى إلى جانب الكثير من الكمالات (و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء...).  

و لكن المشكلة أن الأعمال يشوبها قلة الإخلاص من عجب أو رياء أو حب جاه أو منصب أو مكانة بين الناس في عمل اجتماعي أو ديني. و لو أن الإنسان أخلص لتكونت تلك الآثار الجمة، و لكن و كما قلنا فإن الجوائز القلبية الثمينة لا تتأتى إلا بوجود الإخلاص و الصدق في العمل. لقد أكد الشارع المقدس على صلاة الليل و فوائدها الجمة، و لعل ذلك بسبب كون العبد يؤديها في خلوة عن العباد و بالتالي فإن نسبة إخلاصه تكون أكثر. و على أية حال فإننا لو تحدثنا عن الحب العام بين شخص و آخر فإنه يزداد بالخلوات و المصارحات، و تنشأ العلاقات الخاصة أيضا بالمناجاة الجانبية الخاصة، و إلا فإن العلاقات الخاصة لا تجد سبيلها إلى النشوء إذا لم يجد الطرفان أية فرصة إلى خلوة ليتبادلا الهموم المشتركة و الآلام و المشاكل و الأفكار و الشكاوى. و من هنا فإن طريق الفرد إلى الحب لا يتم إلا عن طريق الخلوات حيث لا يسمعه إلا المحبوب فيشعر عندئذ بالخصوصية و العلاقة الخاصة، و صلاة الليل توفر هذا تماما، و عليه فإن علاقة عنوانها  الحب بين العبد و الرب منتظرة أن تتكون بعد سويعات من الأنس و الألفة و المصارحة المطمئنة و المعنونة بالحب و الحنان بين عاشق و معشوق.   

  • حب الله و القلب السليم      

و حق للإنسان أن يحب الله الذي هو أحن عليه من أمه الحنون، الذي يطعم الإنسان و يسقيه، و الذي يميته ثم يحييه و الذي إذا مرض الإنسان فهو يشفيه، إن الله سبحانه هو صاحب الأفضال و النعم على الإنسان، و هو الذي يغذيه بالنعم صباحا و مساءا، إنه سبحانه هو الذي يقدر أن يعطيك كل ما تتمنى و تطلب، و لكن بشرط أن يكون حبه هو المسيطر عليك فلا يشترك أحد مع الله في حبك له.
 
و يجب عليك أيها العبد أن تستغل فرصة توفر العبادة و الكلام مع الله في الدنيا، لأنك قد تحرم من كلام الله في الآخرة، الله سبحانه قد أعطاك فرصة الحديث معه و أن تبرهن له بعملك حبك له، فكيف بك إذا وجدك تكذب عليه، أما علمت أيها الإنسان أن قدرتك على الحديث مع الله في هذه الدنيا نعمة كبيرة يفتقدها بعض الذين ماتوا و رحلوا إلى الآخرة، فهم غير قادرين على الكلام مع الله و غير قادرين على أن يلتمسوا حبه أو أن يثبتوا إخلاصهم.
 
أنت لا تشعر بقيمة الله سبحانه و تعالى و بوجوده لأنك تعيش مع أهلك و أصدقائك و لكنك يوما ما ستذهب إلى القيامة و لا حديث لك و لا زميل لك و لا أنيس لك و لا جار لك إلا الله عز و جل (يوم يفر المرء من أخيه و أمه و أبيه و صاحبته و بنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه)، و إن عدم حبك لله في هذه الدنيا و إخلاصك له سوف تخسرك الله في الآخرة، سوف يجعلك جفاؤك مع الله في الدنيا وحيدا في الآخرة، سوف تصبح بلا أنيس في مكان كله وحشة، كله ظلمة، كله ألم، و إنك في ساعة الألم محتاج إلى الأنيس العظيم و هو الله، و في الظلمة الشديدة سوف تحتاج نور الله جل جلاله.
 
سوف تشعر حينئذ بأنك فقدت كنزا عظيما كان عندك و لكنك لم تحافظ عليه و هو الكلام مع الله و الأنس مع الله سبحانه، و العبد الذي لم يعتد أن يخاطب الله بحب في الدنيا فلن يجعله الله متكلما في الآخرة، سوف تصبح أخرسا لا تقدر على الكلام، (قال اخسؤوا فيها و لا تكلمون)، و حينئذ ستتحسر على أيامك في الدنيا التي أضعتها في كلام لا وزن له و لا أهمية له، و ستشعر حينئذ بالكنز الذي أضعته و هو الكلام مع الله بحب و إخلاص، و ستسأل الله أن ينطقك و لا أدري إن كان سيجيبك و ينطقك، و ستحاول جاهدا و آملا أن يستجيب لك، بينما زبانية النار يأخذونك إلى العذاب.
 
ستقول يا الله، أنطقني و لئن أنطقتني لأضجن إليك بين أهل النار ضجيج الآملين الذين يتمنون رحمتك بينما كنت تؤمل سواه في الدنيا بعملك الغير مخلص، و ستقول و لأصرخن إليك صراخ المستصرخين بينما كنت لا تكلمه و لا تعير اهتماما للحديث معه في الدنيا، و من ثم ستقول و هذا هو الأعظم: و لأبكين عليك بكاء الفاقدين، و هذا لأنك فقدت ما كان متوفرا لك في الدنيا و هو الأنس و الحديث مع الله، لأنك فقدت الله سبحانه، و ستقول و لأنادينك أين كنت يا ولي المؤمنين و قلت ذلك لأنه لا يكلمه إلا هؤلاء المؤمنون الذين هو وليهم أي حبيبهم، أي أين كنت في الدنيا و أنا لم أنتبه لك، أجبني يا من يتولاه المؤمنون و يحبونه، يا غاية آمال العارفين، يا غياث المستغيثين الذين استغاثوك من النار في الدنيا فأغثتهم منها اليوم في الآخرة، الذين استغلوا دنياهم لك فأجبتهم.
 
و إن كنت أنت أيها العبد من أهل النفاق كنت من الذين (و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، بئس الشراب و ساءت مرتفقا)، و كل ذلك و الملائكة يحملونك إلى النار، و تقول أيضا يا حبيب قلوب الصادقين الذين عملوا لك فأخلصوا لك لأنهم كانوا يحبونك، و يا إله العالمين، هل تتركني و تراني مسجونا لأنني خالفتك و أنا أطالبك بالرحمة و أؤمل من العفو و الصفح و أطالبك أن أراك و أن أجتمع في جوارك مع المؤمنين الذي عبدوك بإخلاص، فحذار أيها العبد ألا تستغل الفرصة التي أتاحها الله لك لتعبده و تحبه بإخلاص في هذه الدنيا فترحل إلى الآخرة قليل العمل بفوات الأوان.